د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
العنف، بما في ذلك الإرهاب، ليس صفة ملازمة للإِنسان، وليس طبيعة ملتصقة به. العنف منتج ثقافي حضاري تاريخي بكل المقاييس، منتج حضاري بشع وقبيح، فليست جميع المنتجات الثقافية الحضارية جميلة أو مسالمة. وقد يأخذ العنف والإرهاب أشكال حوادث صغيرة متفرقة.
وقد يكون عملاً رسمياً ضخماً كالحروب التي تشنها الدول القوية ضد الدول الأصغر. وقد يواكب العنف حملات دعائية وإعلامية تبرره، وقد يكون عنفاً رسمياً سرياً كالذي يمارس في المعتقلات والسجون، أو يكون وحشياً يمارس كانتقام بلا تفرقة بين الضحايا. والتاريخ مليء بحوادث عنف بشعة اختلف المؤرخون بشكل كبير حول قراءاتها أو تفسيراتها، أو مسبباتها، ولكنهم اختلفوا بشكل أقل حول الاعتقاد أن العنف يولد العنف دائماً، وأن العنف لا يحل المشاكل بل يعقدها، وأنه يستمر ما لم تنتفِ الأسباب التي استدعته، فهو قد يقمع طرفاً فيه مؤقتاً إلا أنه لا يلبث أن يعود إذا ما هضم العنف حق طرفاً من الأطراف كأنواع مختلفة من الانتقام. وبالطبع لا يجب أن يفهم هذا القول على أنه تبرير للعنف بل كمحاولة لفهمه كخطوة أولى للقضاء عليه.
ومن الظواهر الغريبة جداً لمن هم خارج منطقتنا لكنها غير مستغربة للمتابعين لتاريخنا عودة العنف الذي مورس في صدر الدولة الإسلامية للسطح مرة أخرى اليوم بأشكال مختلفة: الجهاد ضد ما يسمى الكفار بأشكاله المختلفة؛ العنف في محاولة الخروج على القوى الحاكمة، أو العنف في شكل صراع طائفي بين السنة والشيعة عبر ما يراه الشيعة مظلمة تاريخية ألبسوها عبر التاريخ حزناً بأبعاد «ميثولوجية» وخرافية في بعض جوانبها لأن الحزن في بعض مدارس المذهب الشيعي تحول لاستثمار مصلحي دنيوي ساعد على استدامة ما اعتقد أنه مظلمة إلهية.
والعنف في منطقتنا اليوم ليس بعيداً عن أحداث عنف حديثة أخذت شكل سلسلة من الأحداث المتقاربة تاريخياً، لأن العنف الذي مورس في المنطقة وعليها لم يتبعه حل منصف لجميع الأطراف ولم يتبعه حلول ناجعة للمشاكل القائمة بل أخذ شكل الحق لمن غلب، وبقي الضعيف يتربص بفرص الانتقام. وبقيت قضية فلسطين، وبقايا الاستعمار شواهد ماثلة.
ولا يختلف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، أو الصراع العربي - الإسرائيلي كما يحلو للبعض أن يصفه، عن الصراع الشيعي - السني الذي نراه اليوم بين المسلمين، إذا انه يأخذ طابع الصراع الديني المسيحي - اليهودي من طرف والطرف الإسلامي من جهة أخرى حول أراضي فلسطين وعاصمتها القدس، التي يراها اليهود عاصمتهم التاريخية ويراها المسيحيون مهد المسيح ومكان عودته ويراها المسلمون مقر قبلتهم الأولى وثالث مساجدهم الحرام. كما أن لليهود مظلمة لدى بعض دول الغرب جيرت بقدرة قادر ضد العرب. والدعم الغربي لإسرائيل ظالمة أو مظلومة مصدره عقيدة بروتستانتية قوية تستند إلى ضرورة إعادة بناء الهيكل وتأسيس إسرائيل وتدميرها مرة أخرى من قبل أعدائها كشرط أساسي لعودة المسيح. أما الكاثوليك فقد يختلفون قليلاً عن البروتستانت في قضية عودة بناء دولة إسرائيل، إلا أنهم يرون القدس عاصمة مقدساتهم وشنوا عدة حملات صليبية لاستعادتها.
من أجل حماية إسرائيل ترسخ لدى الغرب عقيدة راسخة وهي بقاء إسرائيل، التي أنشئت حديثاً في منطقة تحمل عداوة لها، الدولة الأقوى في المنطقة ذات الحق المطلق في كل ما تدعيه وكل ما تفعله، وهناك منهم من يرى طبقاً لتفسيرات «انجليكانية» - أي طبقاً لتفسيرات معينة للإنجيل - أن حدودها هي بين النهرين النيل والفرات، أي دولة إسرائيل عظمى يحكمها اليهود وتخدمهم شعوب المنطقة الأخرى الذين ينظر لهم على أنهم جنس أقل أشبه بالعبيد، لأنه أصلاً أبناء إبراهيم من جاريته هاجر ولذا فهم خدم أبديون لأبنائه الأصليين من زوجته سارة، والمقصود بذلك العرب الذين لا يعترف الغرب بانتمائه السامي كاليهود. ويجتمع الفرس الإيرانيون واليهود الغربيون في احتقار العرب والنظر لهم كعدو تاريخي في المنطقة. أما العرب فيرون أن الإسلام نسخ المسيحية واليهودية وقوض الأسس الوثنية والمجوسية للحضارة الفارسية. فالشرق الأوسط هو مهد الحضارات وهو للأسف مقر الصراعات المحيطة بها وبكل ما نسج فيها وحولها من أقاصيص وأحداث تاريخية بعضها للأسف أخذ أبعاداً خرافية. أما الشرق غير المتدين، اليابان، الهند، الصين الخ فهي أقل حماسا للتدخل في المنطقة.
فنحن أمام صراعات تاريخية تتم تذكيتها بشكل مدروس عند الحاجة، ويتم استغلالها في كثير من الأحيان كذرائع للتدخل والحروب ولذا بقيت أسساً سانحة لتدوير العنف والإرهاب في منطقتنا. واستغلال الدوافع التاريخية والدينية كذرائع لأهداف سياسية لم يقتصر استغلالها على الفرس واليهود بل استغله المماليك والأتراك والمغول وغيرهم. ولذا لا غرابة أن تأخذ صراعتنا وخلافاتنا السياسية أشكالاً دينية، وبقيت منطقتنا وللأسف كفوهة بركان عنف يخبو ولا يموت. ولذا كان من السهل لعلماء سياسة كصمويل هنتنجتون التنبؤ بصراع ثقافات في المنطقة وهو قصد بها صراعات دينية، إلا أنه خشي الاتهام بالتحريض على العنف الديني فأسس ذلك على الحضارات التي أقر فيما بعد أنها ثقافات ذات أبعاد تاريخية مصدرها الدين. ومن ذلك أيضاً تنبؤ بيرنارد لويس بصراع شيعي - سني قد يستمر لعقود وربما قرون.
العنف والقتل الأعمى يستند إلى اعتقاد يرسخ لدى ممارسيه بأن الاخر الذي يمارس العنف عليه شخص تافه لا يستحق الحياة، وهو لا بد أن يستند لأسس عرقية أو دينية أو مذهبية أو سياسات عقائدية. فأمريكا كانت تصور الفيتناميين الذين كانت تقصفهم بالنابالم والأسلحة الكيماوية على انهم شيوعيون ملحدون، أعداء للرب ولذا لا يستحقون الحياة، مع العلم أن أمريكا كانت تقاتل الفيتناميين على أرضهم على بعد عشرات آلاف الكيلومترات عن أمريكا تنفيذا لإرادة الرب. أمريكا انهزمت في فيتنام وخرجت منها بخسائر كبيرة، ولو انتصرت أمريكا واستمرت في ممارسة العنف ضد الفيتناميين لربما رأينا مشهداً مختلفاً اليوم. وكذلك الأمر مع فرنسا في الجزائر ومع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، فلو انتصرت القوى الخارجية لاستمر ما يسمى الإرهاب. ومعظم الحروب الاستعمارية أو ما يسمى اليوم أيضاً بنوع من التورية «حماية المصالح» هي حروب ترى في الطرف الاخر عرقاً أقل يوجد فقط كمصلحة ولذا نهبه مسوغ. بينما العنف من الطرف الاخر يكون بدافع الانتقام.
والحقيقة أن الجميع يتعاطف مع الأبرياء الذين يتعرضون للإرهاب في العالم، والجميع يستنكر الأحداث الإرهابية، ولكن القليل منهم في الغرب خاصة يملك الثقافة والعمق ليتفهم دوافعه الحقيقية. فالسلام والرفاه مهم للجميع ويجب أن ينعم به الجميع، والإرهاب واحد سواء كان إرهابا بالجيوش كما يحصل في إسرائيل التي هي في نظر الغرب محقة مهما فعلت، أو بالقصف بالطيران الحربي وبالبراميل المتفجرة أو الطائرات بدون طيار. قد يفتقر الفقراء والمستضعفون لأجهزة دعاية وإعلام لتبرير عنفهم، ولكن من أجل القضاء على العنف يجب التوقف عن تدويره عبر افتعال المشاكل الإقليمية، أو عبر المماطلة في منح الشعوب أدنى حقوقها كما حاصل في منطقتنا، أو التوقف عن سياسات التفرقة لاستدامة الصراعات من أجل إنعاش صناعات السلاح. فبعض المتقاتلين في منطقتنا يملكون أحدث الأسلحة ولكنهم لا يملكون أيا من مقومات الحياة الأخرى.