د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تناقلت مواقع الاتصال الاجتماعي كلاماً لوزير الإسكان الجديد بما معناه أن جزءاً من حل مسألة الإسكان في المملكة يعتمد على تغيير ثقافة شرائح عدة في المجتمع فيما يتعلق بنوعية المسكن وحجمه والمتطلبات الضرورية فيه. وبصرف النظر عن دقة نقل تصريح معالي الوزير إلا أنه
من الواضح اقتطع من سياقه وأنه كان جزءاً من حوار حول هذا الموضوع في إحدى حلقات النقاش التي نظمتها أحد المنتديات. وللحق فمعالي الوزير لم يطرح ذلك المفهوم كحل وإلا لصرح به بشكل رسمي.. كما أن الوزير لم يتوقع أن تتناقله وسائل الإعلام بهذه السرعة وأن يكون مدخلاً لتجريحه وإلا لما أدلى به. ولعل العتب يلقى على قلة خبرة الوزير الشاب في تقلد المناصب الحكومية لا سيما مناصب بحساسية الإسكان. وقضية الإسكان كما يعلم الجميع، مثلها مثل التعليم والصحة، قضية أشبعت تأجيجاً على مدى عقود لا سيما وأن الاستعانة بقضاء الحوائج بالكتمان يعتبر منهجاً لكثير من مسؤولينا الذين يجدون أنفسهم بين المطرقة والسندان، فهم إن صرحوا بالواقع ينظر لهم على أنهم تجاوزوا الحصافة الإدارية المطلوبة منهم، وإن صرحوا بما يهدئ من روع المواطن حرفت تصاريحهم وخيض في نواياهم كما حصل مع معالي الوزير.
ومشكلة الإسكان موجودة في كل مجتمع، ولا يخلو منها أي مجتمع مهما كان مستوى المعيشة به لأنه ومن منطق الواقع هناك أجيال جديدة دائماً تكبر في المجتمعات وتبحث عن وحدات سكنية جديدة قد لا تكون وتيرة وفرتها بحجم وتيرة تكاثر عدد الطالبين لها. وفي المجتمعات الرأسمالية يترك الأمر للسوق والمنافسة لأن السوق يكيف نفسه مع عوامل العرض والطلب ولا يسأل المواطن عادة في تلك الدول عن سعر الأرض بل يسأل عن أسعار الوحدات السكنية الجاهزية التي تباع بقروض طويلة الأجل تفرض عليه أحيانا أن يحتفظ بوظيفته حتى ولو لم يكن يحبها، أي أن الإسكان يعتبر أحد عوامل الإخضاع الوظيفي. كما تفترض القروض الاتجاه التصاعدي لسعر عقاره الذي استدان مقابله ليكون ذلك حافزاً له للاقتراض، وهو أمر معتاد إلا في حال حصول كارثة اقتصادية مثل تلك التي حدثت مع أزمة الائتمان في أمريكا. والدولة في هذه الدول لا تتدخل لدعم المواطن بل لدعم الإقراض، أما في الدول المركزية الريعية التي للدولة اليد الطولى في إدارتها يطالب الناس الدولة بتوفير الإسكان لأنه جزء من الخدمات الأخرى التي يعتمد فيها المواطن على الدولة في توفيرها.
وعندما يزداد الطلب عن العرض في الدول المطالبة بتوفير السكن تأخذ هذه المطالبة شكل الضغط والتضخيم، وربما التأجيج والتجريح، فالقطاع العقاري مثله مثل أي قطاع آخر في الاقتصاد يرتفع وينخفض. وبما أن الكثير منا يرى أنه لا يمكن إجبار تاجر، أو مقدم خدمات على بيع بضاعته أو تقديم خدماته بخسارة لتكون بمتناول الجميع، فكذلك لا يمكن اقتلاع الأراضي من أصحابها أو دفعهم لبيعها بخسارة من أجل أن يستطيع المواطن محدود الدخل بناء مسكن عليها. ولذا فالحلول السطحية التعسفية المبسطة لا يمكن أن تقدم حلولاً ناجحة لهذه الأزمة وهي على العموم أزمة توجد في المدن الكبرى فقط التي تكدس المواطنون فيها بشكل عشوائي نتيجة لافتقدانا للتخطيط السكاني فكان من النتائج الطبيعية لذلك تقلص مساحات الإسكان والمخططات الصالحة للبناء وارتفاع قيمتها. ومعظم ملاك الأراضي اليوم دفعوا قيمتها من حرِّ مالهم وينتظرون الربح فيها كأي تجارة أخرى، أما من حصلوا عليها قبل عقود بطرق أخرى فقد تخارجوا منها. وهنا تكمن أول قضية ثقافية متعلقة بثقافة المواطن عن طبيعة أزمة السكن والتي أججتها بعض الصحف بتصوير تجار العقار وكأنهم مصاصو دماء طارئون وليسوا مواطنين لهم حقوق.
ولذا فحل مشكل الإسكان يتطلب مجموعة من الحلول لمعالجتها ليس على مستوى الحاضر فقط بل والمستقبل أيضاً، والاعتقاد بإيجاد حلول سريعة لأزمة كالإسكان يجافي الواقع ولا يتفق مع المنطق. وكثير منها وللأسف يتصل بثقافة المواطن، كما أدلى معالي الوزير وضرورة تغيير بعض المفاهيم، وخاصة مفاهيم فئة الشباب الأكثر طلباً للوحدات السكنية. فكثير منهم يرفض العمل خارج المدن الكبيرة، حيث يسهل توفير مساكن لهم مع أن جميع الخدمات اليوم تتوفر في كافة مناطق المملكة. وتخطيط العقاريين، الذين يوجه لهم اللوم في هذه الأزمة، يقوم على تقدير الحاجات المستقبلية للسكن في المدن وزيادة الإقبال عليها، ولو قل توقع الطلب المستقبلي على الوحدات السكانية في المدن الكبرى لكيفت أسعار العقارات نفسها معها. كما أننا نفتقر للسياسات السكانية التي تواكب تطور قطاعنا الخدمي ونحن ننظر للنسل على أنه للتكاثر فقط وأن الدولة هي الكفيلة الوحيدة برعاية من ننجبهم في أي ظرف اقتصادي أو اجتماعي دونما اعتبار لقدرتنا نحن على تقديم الحياة الكريمة لهم؛ ولا نفكر أنهم سيتطلبون مستقبلاً السكن والتعليم والصحة في أجواء اقتصادية توحي بتقلص مستقبلي لدخل الدولة من مصدرها الرئيس، النفط.
والأمر الآخر المهم، وهذا يدركه المهندسون المعماريون جيداً وكذلك مختصو التخطيط العمراني ارتباط أنماط السكن بأنماط الثقافة المحلية السائدة. وكثير من أبحاث المعماريين السعوديين الأكاديمية دارت حول خصوصية ما يسمى «البيت السعودي» أو خصوصية التخطيط العمراني السعودي المرتبط بثقافته. وبما أن الهندسة المعمارية تدور في مجملها حول تخطيط الفراغات الداخلية والخارجية، فكم من الفراغات تبقى شاغرة في منازلنا بسبب خصوصيتنا الثقافية؟.. وكم من الفراغات تزيد عن حاجتنا خارجه؟.. ولو أجبنا على هذين السؤالين لأدركنا علاقة وأهمية تصريح معالي الوزير. والحقيقة التي لا بد من ذكرها لنكون موضوعيين مع أنفسنا أولاً هي أن الكثير من الهدر في مساكننا، بل وفي جوانب تخطيطنا الأخرى تدور في مجملها حول الطرق المثلي لإخفاء المرأة في مجتمعنا.. فنحن نفرد عن المجتمعات الأخرى ثقافياً في اعتبارها عورة، وحول قضايا المرأة تدور كثير من مفاهيمنا الخاطئة. والحق أن المرأة في تراثنا المعماري التقليدي كانت مشاركة في المجتمع أكثر منها اليوم. وإذا أضفنا لذلك خصوصيتنا التخطيطية المصطنعة الأخرى المتمثلة بالارتدادت في المباني التي تضيع نسبه لا بأس بها من الأرض المخصصة للسكن لاتضحت مساهمة ثقافة المجتمع في زيادة صعوبة إيجاد حلولٍ لمعضلة الإسكان.
الشباب في كافة المجتمعات هم الفئة الأقدر على التكيف، وهم من يقود التغيرات الاجتماعية، ولذا فهم الأقدر على التكيف مع المفاهيم المعمارية الجديدة، وعليهم أن يكونوا جزءاً من الحل وليس المعضلة فقط؛ واعتقد أنه بالإمكان تصميم وحدات سكنية بحجم معقول تلبي طلب الشباب لسكن أكثر من مقبول. ومن لهم علاقة بالسوق العقارية اليوم يعرفون أن الإقبال يتزايد على الوحدات السكنية الصغيرة التي ملأت الأحياء على شكل فلل صغيرة وشقق سكنية. وهنا يجب أن ينصب جهد وزارة الإسكان بداية على تشجيع الابتكار لاستغلال الفراغات السكنية بشكل مثالي وجميل، وعلى كيفية تخطيط الأحياء السكنية بشكل يخرج الأنشطة الترفيهية من الفضاء الداخلي للفضاء الخارجي. كما ويجب أن تُنمح وزارة الإسكان صلاحية التخطيط المدني والعمراني كاملة بما في ذلك صلاحيات إلغاء الارتدادات أو تقليصها أو السماح بالتوسع العمودي بدلاً من التوسع الأفقي، وغير ذلك من القيود التي لم تعد تتوافق مع واقعنا. فوزارة إسكان بدون صلاحيات كاملة ستكون مقيدة في تقديم حلولها.
وفي الختام أود أن أذكر الشباب بمثل شعبي يقول: تسل بالمنفوشة حتى تأتي المنقوشة، أي أقبل بالسقف الذي يريحك ويسترك واعمل بجد لتحصل ما تريده مستقبلاً، واعلم أن كثيراً ممن يسكنون القصور اليوم ولدوا وترعرعوا في «خنابير». فالحياة تزادد تعقيداً يوماً بعد الآخر، ومن يوهمكم بحلول سحرية لأزمات اقتصادية عصية إنما بخسكم النصيحة وزاد من توقعاتكم بشكل غير واقعي. فاستفيدوا مما ستقدمه الدولة من دعم حتى لا تضيعوا الفرصة تلو الأخرى.