د. محمد عبدالله العوين
يتكرر سيناريو 11 سبتمبر 2001م مع اختلاف الحيثيات والدوافع والمكان والزمان؛ ففي ذلك الزمان كان الاتحاد السوفيتي وكانت بينه وبين الغرب حرب باردة استمرت خمسة وخمسين عامًا ناتجة عن صراع قطبين يريد كل منهما أن تكون له السيادة على العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو هي من جانب آخر حرب أيدلوجية قائمة على الصراع بين الرأسمالية الليبرالية والاشتراكية الشيوعية؛ ولكن الأمر المحزن أن يكون وقودها وحطبها ودماؤها وربما أموالها بدم وبأرواح وبأموال مسلمة على أرض إسلامية هي أفغانستان، وقد أوكل صناع القرار في أمريكا وحليفها الغربي إلى المسلمين والعرب كوكلاء أن ينهضوا بمهمة «جهاد» السوفييت الشيوعيين الكفرة، فكان لهم ما أرادوا، حتى إذا انتهت المهمة بنجاح وفرغ المجاهدون الذين جُيشوا من واجبهم المقدس تطلعوا إلى مواصلة ذلك الواجب الجهادي المقدس أيضًا مع منظومة «الكفر» في كل مكان من العالم حسب فكر القاعدة الذي بدأ يتشكل آنذاك؛ سواء كان إسلاميًا أو غربيا نصرانيًا، فلا يمكن أن يذهب ذلك التحشيد الأيدلوجي هباء، ولا يمكن أيضًا أن تنطفئ جذوة تلك المشاعر وحصيلة تلك التدريبات وقصص البطولات في جبال تورا بورا وغيرها دون أن تتكرر صور انتصارات جهادية جديدة على كفار جدد؛ فكان أن انقلب المجاهدون على من نصرهم وجمعهم وأمدهم بالمال والسلاح وصواريخ «ستينجر» المضادة للطائرات المحمولة على الكتف التي أسقطت مئات من طائرات السوفييت!
وهنا أمسك ملالي إيران بخيط المجاهدين المتوتر القلق الذين ضاق بهم حليفهم الأمريكي وغير الأمريكي وهددتهم مضيفتهم السودان بالطرد؛ فأعلن عن ترحيبه بكثير من قادتهم وعناصرهم؛ لا حبًا فيهم، ولا اقتناعًا بمبادئهم؛ فما بينهم من تناقض يعادل ما بين المشرق والمغرب من بعد وتناء؛ ولكن سعيًا من عمائم قم وبطريقتهم البرجماتية المعروفة إلى توظيفهم لتحقيق مقاصدهم الخفية البعيدة عن الرؤية السطحية فاستضافتهم إيران وأمدتهم بالرعاية اللازمة وبما احتاجوه من وسائل اتصال ومعلومات ويسرت لهم أماكن التدريبات في سوريا ولبنان ودول أوروبا الشرقية وبعض دول الغرب، وأدخلت عناصر منهم للتدرب في مدارس الطيران في أمريكا وبعض عواصم الدول الأوروبية إلى أن تهيأت لـ «القاعدة» الأسباب والظروف المناسبة ففجرت أبراج نيويورك وغيرها في 11 من سبتمبر 2001م.
وكرر الغرب أسلوبه الغبي في سعيه إلى الإفادة من المتطرفين وتحشيدهم من جديد ودعمهم وتسليحهم وحمايتهم ومدهم بكل ما يحتاجون
إليه من مال وأسلحة وذخائر عن طريق وكلاء جدد؛كما هو صنيع إيران وعميليها في العراق وسوريا؛ فجنى اليوم ما جناه بالأمس بعد انتهاء حربه مع السوفييت عن طريق مجاهدي تلك المرحلة؛ فقد انقلبت عليه «القاعدة» كما انقلبت عليه «داعش» اليوم، وضربته ربيبته الأولى في مقتل قبل ستة عشر عامًا في يوم أسود بنيويورك كما ضربته اليوم ربيبته الثانية في معركة دامية مؤلمة بباريس!
ولكن الوكيل البرجماتي الخفي ظل في المرحلتين القاعدية والداعشية سليمًا من الأذى بعيدًا عن الحرائق؛ فلم تتعرض طهران أو قم أو غيرهما من المدن الإيرانية لأية ضربة؛ بل إن النتائج التي ترتبت على استضافة ودعم تكوين التنظيمين المتطرفين بأيدلوجيتهما التي تظهر في خطابها المعلن انتماءهما إلى السلفية السنية كانت في صالح إيران من غير شك؛ فقد تمددت الهيمنة الفارسية في المنطقة فأحكمت قبضتها كليًا على العراق بعد أن كان عدوًا عربيًا سنيًا لها، وتكاثف حضورها العسكري والسلطوي على لبنان عن طريق ذراعها العسكري «حزب الله» وهيمنت كليًا على سوريا بعد أن اندلعت الثورة فيها على نظام الأسد، ونالت موافقة أوروبا وأمريكا على برنامجها النووي، وعادت إليها ملياراتها الموقوفة في بنوك العالم، وتحقق لها بجرائم وحماقة القاعدة ووحشية ودموية داعش ما سعت إليه من تشويه سمعة العرب والإسلام السني واستعداء الغرب واستدعائه إلى ديار العرب لتمزيقها واحتلالها بحجة اجتثاث الإرهاب ومحاربته!