د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كتب أحد الزملاء قبل عدة أعوام مقالاً أشاد به بجامعة الملك سعود دبجه بعبارة: «ارفع رأسك فأنت في جامعة الملك سعود»، وفيه أشاد بالجامعة بشكل ملفت للنظر وبالتصنيف الذي حصلت عليه ضمن الخمسمائة جامعة الأولى في العالم، وكان ذلك إبان فترة شهدت حراكا كبيرا
في الجامعة اختلف منسوبو الجامعة حوله، فنظر له البعض له على أنه طفرة شاملة، واعتبره آخرون نوعا من الحراك الذي افتقد التخطيط في بعض جوانبه. وكانت الصورة الإعلامية للجامعة من أولوياتها، فتم الصرف بكرم ربما كان مفرطاً على هذه الجوانب، وكان التركيز منصباً على استجلاب أكبر عدد من الكراسي البحثية، والارتقاء في التصنيفات الخارجية والحصول على دعم المجتمع على شكل أوقاف للجامعة. فكانت الجامعة بطبيعة الحال تدار على مستويين: أحدهما لعلاقاتها الخارجية وجلب الدعم، والثاني على المستوى الداخلي الذي اغدق بكرم على فئة من أعضاء هيئة التدريس والإداريين بهدف تحفيزهم، وأحبط الآخرين الذين لم يحصلوا على دعم مماثل. وكانت معظم مناشط الجامعة تدور حول الاعتماد، والتوأمة، وكراسي البحث، واستجلاب الأسماء الكبيرة من الزائرين الخ.. وصرفت الجامعة على هذه الأنشطة مبالغ طائلة بعضها لازالت الجامعة تتحمل عبئه حتى اليوم. عموما تشكر إدارة الجامعة السابقة على ما قدمته ولا شك أنها في ذلك انطلقت من رؤيتها الخاصة بها التي تتناسب مع الظروف التي أحاطت بها سواء كانت مالية أو اجتماعية أو إدارية. ولكن قد لا تكون هذه النظرة بالضرورة نظرة الإدارة التي أتت بعدها وتحملت بعض الآثار الجانبية لهذا الحراك السريع الذي كان وبصراحة متسرعاً في بعض جوانبه. ومما يحمد لجامعة سعود هو المستوى الرفيع لتعامل إداراتها اللاحقة مع الإدارات السابقة, حيث إن جميع الإدارات كانت تقدم خدمة الجامعة وسمعتها على أي اعتبار أخر.
الزميل ذاته كتب قبل أشهر متحسراً على ما اعتقد أنه خروج للجامعة من التصنيف العالمي، وعلى تباطؤ الحراك فيها وتراجع العمل البحثي فيها. ولا أحد يشكك في محبة هذا الزميل للجامعة وإخلاصه لها حتى ولو انتقل منها. فهو تخرج منها ودرّس فيها وأخلص لها، ولكن الكاتب يجد مجالاً للاختلاف معه مثلما اختلف هو مع من وجه له عبارة: أرفع رأسك في جامعة الملك سعود. فالجامعة، رغم عدم قناعة كاتب المقال بموضوعية التصانيف الخارجية وأهميتها. وللمعلومية فقط فلا زالت الجامعة تحتل التصنيف ذاته بل ربما تقدمت في التصنيف، ولكن بقدر أقل من الدعاية الإعلامية. وعموما فمستوى الجامعات، خصوصاً الجامعة الضخمة كجامعة الملك سعود، لا يمكن أن يتغير في عام أو عامين أو حتى خمسة، فالخطط الدراسية وهي الأهم تتطلب حسب النظام عامين دراسيين لتقر، والجامعة لم تتم بعد إعادة هيكلتها حتى الآن، والخطة التي وضعتها الإدارة السابقة للجامعة تتكلم عن الجامعة في عشرين/عشرين أي في العام ألفين وعشرين. أما البحث العلمي فقد تمت زيادة الصرف عليه ولكن بواقعية وبنوع من الترشيد، فالمال أصبح يدعم البحث، لا البحث يدعم المال.
وتذكرت عبارة الزميل عندما تخرج أبني من الثانوية وكان ولله الحمد له الخيار للبعثة من عدة جهات بوظيفة مضمونة، وقادراً على دخول أي جامعة يرغبها، وطلب مني المشورة فاستشرت أحد الزملاء المسئولين عن السنة التحضيرية هو الدكتور نامي الجهني لثقتي في خبرته في التعامل مع الطلبة المستجدين، فأشار علي أن اتركه هو يحدد مساره بنفسه ويتحمل مسئولية ذلك، فأخذت بمشورته وتركت أبني يخط طريقه بنفسه. وبعد أخد ورد واستشارات وتساؤلات عاد لي قائلاً: قررت الدخول لجامعة الملك سعود. وهنا قلت له على بركة الله وتوفيقه، وبما أني عملت في جامعة الملك سعود طيلة حياتي العملية، قلت له: أبني، «ارفع رأسك فأنت في جامعة الملك سعود». ثم خطر ببالي سعادة الدكتور وكيل الجامعة عبدالله السلمان الذي كان طالباً متفوقاً في الثانوية وكان والده أيضا أستاذاً في الجامعة قبله فدخل الجامعة وهو اليوم أحد مسئوليها. وهناك أيضاً كثير من الزملاء في الجامعة الذين فضلوها على غيرها لأبنائهم رغم أن معدلاتهم تؤهلهم لدخول أي جامعة أخرى يريدونها. كما أني سمعت أن أبن معالي الدكتور بدران العمر نفسه يدرس أيضاً في الجامعة وهو من الطلاب المتفوقين فيها. هنا قلت لنفسي هذا هو التصنيف الحقيقي للجامعات مدى: ثقة مسئوليها بما تقدمه ورضاهم بها لأبنائهم.
والحقيقة أن الجامعة اليوم تمر بفترة استقرار بعد فترة فورة اختلطت فيها بعض الأمور، وتفاضل بها بعض المسئولين، وتم الصرف فيها في بعض الجوانب بقليل من الضوابط، وهذا الأمر ليس سراً ويعرفه معظم العاملين في الجامعة. كما أن الوضع الاقتصادي عموما تغير والجامعة اليوم تسعى جاهدة لاستكمال المشاريع الطموحة جداً التي خلفتها الإدارة السابقة ولكن بنوع من تحديد الأولويات وبنوع من الترشيد لأن موارد الجامعة اختلفت. كما أن الجامعة أغلقت كثيرا من كراسي البحث التي لم تقدم المأمول منها بحثياً، وألغت بعض المشاريع التي اتضح عدم جدواها العلمية أو العملية. وكثير من المطلعين ومن وسائل الإعلام سبق وطالبت بهذا الترشيد وعندما طبق تصورت ذلك ركوداً. والجامعة اليوم ما زالت بالنشاط ذاته وربما أكثر إلا أنها أقل تركيزاً على الجوانب الإعلامية. وللجامعة سمعتها الجيدة خارجياً دونما حاجة للركض وراء التصنيف.
واقع الحال أن التصنيفات الخارجية قد لا تنصف جامعات كجامعاتنا بسبب الاختلاف الجذري في الواقع الثقافي والنظام الاجتماعي لدينا مما يصعب انطباق أي تصنيف عالمي بشكل منصف علينا. فالتعليم لدينا مفصول بين الجنسين بحكم واقعنا الديني، ومؤسساتنا العلمية غير مستقلة إدارياً وتخضع لجهاز إداري أعلى، ووضعنا الثقافي والاجتماعي مغرق بالخصوصية وتقيده كثير من الأعراف والتقاليد. والتصنيفات العالمية بنيت على معايير معولمة انطلقت معظمها من واقع مجتمعات غربية. ورغم ذلك فالجامعة تحاول جاهدة مواكبة التطور العلمي والبحثي العالمي، ولا تمانع في الارتقاء في التصنيفات العالمية، ولكن ذلك لم يعد أولوية. وهنا أود الخروج عن النص قليلاً للقول إنه يصعب أن يكون الإنسان باحثاً علمياً عالمياً في ظروف مجتمعنا المحلية الحالية. فالجامعات باختصار هي وليدة الثقافة والمجتمعات التي توجد فيها. وجامعات أمريكا مثلاً تختلف عن بريطانيا، وجامعات فرنسا واليابان الخ.. كما أن الأنماط الاقتصادية المتبعة هناك، والأنظمة العمالية تحتم على القطاع الخاص اللجوء للجامعات وتحمل بعض المسئوليات معها، لا أن تقاطعها وتكيل الاتهامات لها. ورغم هذا كله، وللأمانة فبعض خريجي جامعاتنا يفوق بكثير بعض من عادوا من نظام الابتعاث الخارجي. ولذا فقد يجدر بنا تفهم وضع جامعاتنا ودعمها وتحمل أخطائها لأنه لا توجد أي جامعة في العالم بلا أخطاء، ولكننا عندما ننظر للجامعات الخارجية لا نرى إلا جانبها المشرق فقط لأننا نجهل أخطاءها وعيوبها التي يعلمها من يعملون ويدرسون بها فقط.
وباختصار، فجامعة كجامعة الملك سعود مؤسسة ضخمة جداً، ومن رحمها ولدت الكثير من الجامعات الناشئة، وقد أسهمت بنصيب الأسد في تأهيل كوادر البلاد الناجحة، وهي تسهم بنصيب كبير من خدمات المنطقة الصحية والاجتماعية، ولذا فكل دعم تحصل عليها يعود مرة أخرى للمجتمع بفوائد مضاعفة. ولكنها في الوقت ذاته وهذا حقيقة لا مراء فيها جزء من هذا المجتمع وثقافته، ولا تستطيع الخروج من هذا الواقع. وهي، كالجامعة الأقدم والأعرق، وتحتاج لدعم أكبر من المسئولين، ورعاية خاصة من كافة قطاعات المجتمع ورجال أعماله، وكذلك لمرونة أكبر ليس في مجال أوجه الصرف فقط، بل وفي الانفتاح الثقافي والاجتماعي. وعوداً على ما أسلفت به أعلاه فإن مقياس نجاح أي مؤسسة هو ثقة العاملين فيها ورضاهم بخدماتها لأنفسهم ولأبنائهم وذويهم فهذا هو التصنيف الحقيقي للجامعات.