د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تحرص حكومة خادم الحرمين الشريفين على إشراك الشركات السعودية في كثير من مشاريع التنمية مما ساهم في بروز قطاع خاص سعودي قوي ونظم بنكية متقدمة. وقد كرر المسئولون الاقتصاديون في مناسبات عديدة أنهم يتوقعون أن يتنامى دور القطاع الخاص في كل خط
خمسية تالية وبشكل متسارع. ولذا فقد أنشأت الدولة صناديق متعددة ومتنوعة للإقراض في مجالات التنمية المختلفة. وهنا يمكن القول إن الدولة نجحت بشكل كبير في ولادة القطاع الخاص في المملكة بكل ما في ذلك من إيجابيات أو سلبيات. لكن تسهيل ولادة القطاع الخاص تتطلب أيضاً رعاية هذا القطاع الوليد ومتابعته خاصة على مستوى الشركات المتوسطة والصغيرة حتى تشب وتقف على أقدامها، سواء من ناحية الدعم المالي أو التشريعات التنظيمية التي تكفل حقوقها.
ويدرك الخبراء الاقتصاديون أن نجاح أي اقتصاد وطني يتطلب تناغماً كاملاً ودقيقاً بين كافة قطاعاته العامة والخاصة والخدمية وعلى كافة المستويات. فإدارة الاقتصاد هي أشبه بقيادة أوركسترا سيمفونية يقودها مايسترو واحد ولكن لكل مجموعة منها قائد آخر يضبط إيقاعاتها وألحانها ويضمن انسجامها مع المجموعات الأخرى ليأتي اللحن متكاملاً وجميلا. وفي الأوركسترا السيمفونية تكون كل الأدوار مهمة حتى ولو كانت صغيرة وعلى مستوى عازف صغير. فقد يحيل عازف صغير اللحن برمته إلى نشاز. وينجح الاقتصاد كلما جاء منسجماً ومتناعماً، وقد يعطل قطاع واحد نمو الاقتصاد برمته. ولذا ففي الاقتصاد الناجح تتساوى أهمية القطاعات والمقاولين بصرف النظر عن مجالاتهم أو حجمهم. وقد تسهم مجموعة مقاولين صغار في نجاح مشروع يتولاه مقاول كبير أو يعطلونه ليس بتعطيل المشروع ذاته بل بما يتطلبه المشروع من دعم لوجستي وفني.
وجميع المشاريع والخدمات تبدأ بالمقاولين الصغار من حيث التمهيد والتأسيس وتعتمد عليهم أيضا في الدعم أثناء العمل وفي نهايته. ولذا فلا يشك أحد في الدور الذي يلعبه المقاولون الصغار، وجميع المقاولين الكبار كانوا صغاراً يوماً وكبروا بالدعم والرعاية والاهتمام. ورغم الأهمية الكبيرة للدور الذي تلعبه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد، فهي تواجه صعوبات كبيرة في مراحل تأسيسها ونموها نتيجة لبعض التنظيمات المعرقلة، أو الحصول على التمويل البنكي المطلوب بفوائد ميسرة، لأنها بحاجة لوقت طويل للرفع من كفاءتها الائتمانية التي تعتمد كثيراً على سرعة سدادها لديونها التي ترتبط ارتباطاً كبيراً بمحقوقها لدى الجهات الحكومية التي تتعاون معها، ومع ذلك فهي وللأسف تحتل ذيل القائمة في الحصول على مستحقاتها من الجهات المختلفة لأن بعض المسئولين لا يدركون الأهمية الحقيقة لها.
وقطاع المقاولين الصغار أسرع القطاعات تأثراً بالأزمات الاقتصادية، وهو كذلك أبطأوها في النهوض مرة أخرى بعد الأزمات. أي أن الدولة تحتاج لضعف الجهد والمال لتعيد بنائه مستقبلاً، ولذلك فالأفضل هو الحرص عليه ومنعه بأي شكل من الأشكال من التضرر والإفلاس لأن إفلاس قطاع المقاولات الصغيرة يصيب أصحابها بالإحباط ويتركهم مثقلين بالديون فلا يعاودن المخاطرة مرة أخرى، وهذا ما اثبتته أزمتان اقتصاديتان مرت بهما المملكة حيث كانت المؤسسات الصغيرة هي الأسرع تأثراً بتأخر صرف مستحقاتها لدى الدولة رعاها الله. ولا يشك أحد في حرص الدولة على دعم ورعاية قطاع المقاولين الصغار، لكن الأزمات المالية المفاجئة لا تترك للمسئولين مساحة للتحرك بهذا الاتجاه، وهي تسدد المستحقات بحسب الأقدمية وربما لاعتبارات أخرى لا نعرفها.
وقد مررنا وللأسف بأزمتين اقتصاديتين كان أكبر المتضررين منهما قطاع المقاولين الصغار، وهناك من يرى في الأفق مرحلة ترشيد جديدة أملتها الظروف الاقتصادية المتمثلة في الهبوط المفاجئ والكبير لأسعار النفط، ومرور العالم بأجمعه بأزمة اقتصادية يضاف لذلك أيضاً الظروف الجيو-سياسية للمنطقة مما يخشى معه تأخر الجهات الحكومية في دفع مستحقات المقاولين الصغار. ولذا فلعل الدول رعاها الله تحافظ هذه المرة على سلامة قطاعاتها الصغيرة الوليدة التي قد لا تتحمل الأزمة بحيث ترعاها كيلا تضمحل، وهذا يتطلب الإسراع في إنجاز مستخلصات المقاولين الصغار لدى الدولة ودفع مستحقاتهم عليها، لأن هذه الشركات الصغيرة لديها عمالة وطنية ووافدة تحتاج لرواتب ومستحقات بشكل دوري مستمر لا يقبل التأخير. وقد لوحظ مؤخراً إقدام بعض العمالة على بعض الأعمال المستهجنة الغريبة عن مجتمعنا للمطالبة بحقوقهم ورواتبهم في ظل عجز المقاولين عن دفعها.
نظرياً يفترض أن تبدأ المشاريع بعد رصد أموالها ووضعها جانبا بشكل مستقل في بنود خاصة بها وألا تبنى كلفة هذا المشاريع على اعتبارات ميزانيات قادمة حتى لا تلعب الظروف الطارئة دوراً في تأخر صرفها أو تعطلها. ثم إن انتشار معرفة تأخر المستخلصات أحيانا لدى المالية يدفع المقاولين الجيدين إلى الإحجام عن تنفيذ المشاريع الحكومية، أو تنفيذها بمواصفات أقل من المطلوبة أو بخس المشاريع بعض مواصفاتها. فالمقاولون الصغار أكثر حذراً وخوفاً من التضرر من المقاولين الكبار، وهم أيضاً يشكلون السواد الأعظم من مقاولي الباطن الذين لا يستطيع المقاولون الكبار بدونهم إتمام مشاريعهم.
فتأخر المستخلصات والمستحقات يراه البعض أمراً بسيطاً ومسألة وقت فقط، ولكنه كالفيروس الذي ينتشر بسرعة ويتضاعف ضرره حتى تظهر له أعراض مرضية كثيرة لا تتوقف فقط على إفلاس شركات المقاولات الصغيرة بل تتعدى ذلك إلى أمور أخرى كثيرة تتعلق بالتوظيف والعمالة، ولجوء المقاولين لا سمح الله بالاتجار بالفيز أو ترك العمالة تعمل في السوق السوداء حتى تحصل على رواتبها من جهات أخرى. وفي أسوأ الأحوال تودي إلى انتشار الفساد المتعلق ببعض الممارسات السيئة لاستخلاص المستحقات.
ولذا فخطورة تأخر صرف مستحقات المقاولين الصغار لا تتوقف عند إفلاس هذه الشركات فقط ولكنها تتجاوز ذلك لما أكثر بكثير مما يبدو على السطح، وعليه فقد يجدر بالمسئولين في الجهات المالية لدينا التعاون مع المقاولين لمساعدتهم على تجاوز هذه المشكلة ربما بالترتيب مع البنوك المحلية التي تتكدس فيها أموال المواطنين المستفيدين من خدمات هذا القطاع وذلك بتمكينهم من الحصول على مستحقاتهم من البنوك بكفالة الدولة التي تستطيع الحصول على قروض من البنوك المحلية بفوائد ميسرة قد لا تتجاوز 1%، وقد لا يمانع المقاولون الصغار من دفع هذه الفائدة أو ربما أكثر منه بقليل مقابل الحصول على مستحقاتهم في وقتها، وهنا تكون المالية ضربت أكثر من عصفور بحجر واحد: أولها الحفاظ على قطاع المقاولات الصغيرة المهم عند مرور الاقتصاد بأزمات طارئة؛ ثانيها، ضمان استمرار التوظيف وانضباط العمالة؛ وثالثها، زيادة المنافسة بين المقاولين الممتازين وزيادة الإقبال على مشاريع الدولة وضمان تنفيذها بأدق وأفضل المواصفات ورابعها مكافحة الفساد باجتثاث أحد أسبابه. والله من وراء القصد.