د. عبدالحق عزوزي
إذا سمح لنا بالحديث عن المفارقات والتناقضات والمستجدات في المنطقة العربية لاحتجنا إلى كتابة آلاف الصفحات وكلها منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور... وهناك أمور معلنة وأخرى خفية، وهناك أمور حاسمة وأخرى مترددة مما يوقع الجميع في لجة من التناقضات في التصريحات
وارتجال في أخذ التدابير... وفي أحوال مُرة كهذه عندما لا تتوفر منظومة معينة على قوة للتدخل العسكري لكي تحافظ على المصالح الجهوية وتحقق السلام والاستقرار في المنطقة، فإن الأمن الإقليمي يصبح في خطر وفي مرمى نيران كل التدخلات الجهوية والعالمية.
منذ سنوات ونحن نقول إن هناك خللاً خطيرا جداً وغير مسبوق في الوضع الإقليمي العربي، والغيوم البركانية تملأ الجو العربي، وقتامته هي اليوم مضرب الأمثال في مشارق الأرض ومغاربها، وقد باتت سلبياته تنخر جذور النظام العربي، وهناك حالة من الترقب مثيرة للقلق، والترقب في مجال العلاقات الدولية غالباً ما يخلق الالتباس السياسي والارتباك في الأولويات، والاضطراب في العلاقات الثنائية والإقليمية، وتكبيل النظرة والحركية الواقعيتين... فالترقب يخلق الفوضى واللا أمن، ويولد حالات من الالتباس والغموض، ناهيك أنه يولد الارتجالية في التحليل وأخذ القرارات المناسبة. وتصور معي لو لم يكن هناك تدخل عربي في اليمن؟.. ماذا كان سيقع؟.. لكانت المنطقة اليوم كلها على بركان ساخن ولوصلت شظايا الانتصار الحوثي - الإيراني إلى كل دول المنطقة.
هاته الفرضية الحقيقية يجب أن تكون حاضرة في أذهان كل العقلاء، لأننا بدأنا نرى بعض التحليلات تثير تساؤلات عن جدوى التدخل وفاعليته. دائماً ما نحاول إعطاء تحاليل آنية لا تنظر إلى السمات الأربع للبنية الإستراتيجية لأي وضع إقليمي: التقلُّب، والتوجُّس، والتعقيد، والغموض... تعاني التحاليل عن المنظومة العربية من التفكير الجماعي الأحادي، والتشابه والتناغم في العقليات بين أفراد معينين، لهم أيديولوجيا سياسية واحدة، ونظرة واحدة وخاطئة عن الأنظمة الداخلية وعن العالم، والنتيجة النهائية هي أن المعرفة الحقيقية التي عند أناس لهم باع في الفهم، والتفكير، والتخطيط، والتنظير، تبقى مغمورة أو يتجاهلها العديد من الناس.
الوعي العروبي الجديد حقيقة، والنتائج الاحتوائية والإيجابية للتدخل العربي في اليمن هي بالآلاف وتتعدى ما يمكن قراءته في ألف كتاب جاد في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ويجب الآن استثمار هذا التدخل وهذا الوعي العروبي المتزن... فيجب أن يُؤسس النظام العربي المقبل من خلال دول محورية رئيسة، وعلى رأسها السعودية والمغرب والإمارات ومصر، ولا يمكن التباهي بإمكانية جمع 22 دولة عربية على قصعة عروبية واحدة، كما لا يجب فهم كلامنا على أننا نسعى لإزالة الدول العربية الأخرى من هذا الوعي العروبي الجديد بتحالفاته الإستراتيجية والاقتصادية والتنموية والعسكرية، بل يجب خلق ميكانيزم مؤسساتي تكتلي محدود تنضم إليه الدول الأخرى تباعاً، حتى إذا وقع خلل أو اختلال في تلك الدول لن يؤثر ذلك على المنظومة التكتلية ككل، وهذا ما عانى منه النظام العربي لعقود، إذ كلما وجدت مشاكل بنيوية داخلية أو بين دولتين وأكثر، إلا وتأثر النظام بأكمله فتعطلت الهياكل وكل البوصلات التكتلية الإقليمية والاتفاقيات المبرمة، وهلم جرا.
إن المنظومة العربية يجب أن تبدأ جادة في موضوع إصلاح الجامعة، وأن يكون هذا الموضوع حجر الزاوية في أولوياته ومبدأ رئيساً في كل الاجتماعات لاجتثاث كل المساوئ التي ضربت جذور النظام العربي وخلقت حالات من الالتباس السياسي والارتباك في فقه الأولويات والاضطراب في العلاقات العربية - العربية وبتر عجلة النمو والتنمية المستدامة؛ وصاحب كل هذا اضطراب في العلاقات العربية مع الغرب في عالم معولم يعطي الأولوية للتكتلات البناءة والتجمعات القوية؛ وهذا خلل مبين يحتاج منا جميعاً وقفة تأمل ومراجعة مع الذات ونقد متمكن وإرادة سياسية حقيقية لتقود الجامعة بذلك سفينة التنمية في عالمنا العربي؛ وبإمكاني أن أستشهد في هذا المقام بما كان قد قاله السيد عمرو موسى منذ تسع سنوات، وكانت كلماته معبرة: «اسمحوا لي أن أمضي في الحديث بكل صراحة: إننا نعاني أزمة ثقة فينا، وفيما بيننا، نعم لقد وصل الأمر إلى درجة غير مسبوقة في تلاعب قوى دولية في قضايانا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ربما استخفافاً برد الفعل العربي أو توقعاً له رداً مضطرباً بين المعلن والخفي وبين الحاسم والمتردد، مما أوقعنا في لجة من التناقضات، ثم إن الأمن الإقليمي مهدد ومعه الأمن القومي العربي، ولا يجب أن نتسامح أو ندير ظهورنا لمشاكل كبرى تمس الكيان العربي بذاته دون وقفة أو وقفات حاسمة تتبنى مواقف قوية تضع في الاعتبار توجهات الشعوب العربية ومناداتها بالإصلاح الشامل لكي نحافظ على المصالح العربية ونحقق السلام والاستقرار في المنطقة كلها، إن المواقف القوية لا يمكن أن تضر طالما كانت رصينة وعاقلة، والحفاظ على مصالحنا لا يمكن أن يكون محل نقاش أو تردد»؛ صحيح أن هاته الكلمات ما كان لها الصدى الملائم آنفاً:
وإذا السيوف تكسرت أنصالها
فشجاعة الكلمات ليست تفيد
ولكن تطلعات الشعوب الآن في البيت القطري الداخلي، كما في البيت العربي الكبير والتغيرات الحاصلة يجب أن تخلق واقعاً عربياً ونظاماً إقليمياً جديداً، ولا داعي أن نبقى في صراعات بين دول مختلفة الأنظمة والاقتصاد، فلقد أضر ذلك بالبلدان العربية أيما ضرر، ولم تعد الشعوب العربية على استعداد لتقبُّلها مرة أخرى؛ ولا يخالفني أحد إذا قلت إن قيام صرح عربي فعّال بنظام إقليمي جديد وجامعة عربية قوية وسوق عربية مشتركة بات شرطاً من شروط البقاء في القرن الواحد والعشرين والتجارب في أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية أضحت واضحة للعيان.
ثم إذا استقرأنا تاريخ الاتحاد الأوروبي الذي دائماً ما أسرده كمثال حي لتكتل جهوي ناجح وله من السمات ما يمكننا استخلاص الدروس والعبر الحقيقية والصالحة لنا، سنجد أن هذا الاتحاد مكون من 28 دولة، والدول المحورية التي قادت وتقود سفينته بإستراتيجية خارقة للعادة وبدون كلل أو توقف، سنجدها طبعاً في دولتين رئيستين، فرنسا وألمانيا: انتخاب البرلمان الأوروبي بالاقتراع العام المباشر وخلق نظام الوحدة الأوروبية سنة 1979 كانت بتحريك من الثنائيين الألماني هيلموت كول والفرنسي فاليري جيسكار دستان؛ كما أن الثنائيين هيلموت كول وفرانسوا ميتران خلقا المستحيل للاتحاد الأوروبي (خلقا السوق المشتركة، خلقا شينغن، وخلقا العملة المشتركة، كما خلقا السياسة الخارجية والدفاع المشترك، والمواطنة الأوروبية)، كما أن الثنائيين جاك شيراك وجيراد شرودر خلقا نظام السياسة الفلاحية الموحدة، ناهيك عما قام به ساركوزي ومن بعده فرانسوا هولاند مع الألمانية ميركل لإنقاذ العملة الأوروبية من الانهيار وإنقاذ اليونان من الإفلاس.
ويجب التذكير هنا أن عاصفة الحزم لم تنتظر الضوء الأخضر من واشنطن للتدخل في اليمن، ولا ننسى أن النجاح الذي حققته القمة العربية من حيث السرعة والقرارات المدروسة لم يشهده العمل العربي المشترك منذ عقود، وهو الذي أثّر إيجاباً بصدور قرار مجلس الأمن الداعم للشرعية في اليمن. هاته مسائل وغيرها لم تكن ممكنة من قبل، وأحدثت زلزالاً في الطابع الجمودي للتحرك العربي المشترك الذي وسمَ تاريخ الوطن العربي ولعقود، وأما آن الأوان لأخذ الدروس والعبر وتبني إستراتيجية بعيدة الأمد بدول محورية لبناء نظام عربي جديد؟