د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبنا أن كل التجارب السياسية التي مرت منها دول أوربا الغربية والشرقية وأمريكا اللاتينية كانت صعبة وشاقة، ولكن محدد النجاح أو الفشل هو الثقة، الذي يجب أن يغرس ويسقى بماء الذهب في المجتمع وبين المؤسسات،
بل وبين الأفراد وحاملي لواء تسيير الدولة وأجهزته؛ ولأنه إذا تقوى الشك وانعدمت الثقة بين الفرد والدولة وبين الفرد والمجتمع، عمّت الفوضى وتلاشت الفضائل السياسية في المجتمع دفعة واحدة، فلا الفرد يثق في المؤسسة ولا المؤسسة تثق في الأفراد ولا المؤسسات الأخرى ولا قدرتها على التسيير والتنمية ولا هبة الدولة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرقبة، فينغمس المجتمع في القيل والقال ويغرق في بحر الهم والجدال، ويبعد رجالات الدولة الأكفاء عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي تبخرت، ويهتري النسيج الداخلي الماسك لمقومات الأمن والاستقرار والميسر لقواعد التنمية المستدامة والحكامة الجيدة، ويضيع الوقت الثمين في بناء المؤسسات وتعميم الأمن والاستقرار؛ ففي العديد من الدول ينبغي على الفاعلين السياسيين فيها حسن الظن بالمؤسسات والأفراد وطي صفحة الماضي، وترك زرع بذور الشك المستمر في أذهان الناس وعقولهم احتياطاً من الريبة والسخط وأمارات التوتر والنفور، بل الوصول إلى حد التقاتل المشين، كما يقع اليوم في ليبيا؛ فالشك مخالف لأدنى شروط العقل والتعقل ومورث للريبة داخل المجتمع، ومقوض لأسس تجذير السلم داخل المجتمع، وتصبح قشرة الدولة الحامية مفقودة وسورة الغلب من الكاسر ممنوعة وشارة الغلب معدومة، فترتفع وتيرة المنازعة داخل المجتمع وينتبذ الناس الدولة وأتباعها وهو ما يقع بالضبط في العراق...
ثم إن مبدأ الثقة ليس حصراً على الدول العربية، بل بالإمكان استحضار ما وقع في الفضاء الأوربي من ثورة شعبية على حكام انتخبوا بطريقة ديمقراطية ولكن ذلك لم يغنهم في شيء، لأن مبدأ الثقة فقد بينهم وبين منتخبيهم بسبب عدم قدرتهم على تسيير الاقتصاد الوطني ومحاربة البطالة وإيجاد مناصب الشغل والحد من المديونية.
فأزمة الديون في اليونان جعلت شرائح المجتمع مجتمعة تخرج إلى الشوارع، إلى أن تنحى رئيس الوزراء ببانديريو عن السلطة، وتبعه في ذلك رؤساء أوربيون اآخرون بما فيهم الميلياردير الإيطالي سيلفيو برليسكوني الذي اضطره الغليان الشعبي والديون الإيطالية التي وصلت إلى 1.9 تريليون أورو، إلى التخلي عن عرشه، وللذكر هنا فإن نسبة الفائدة على قروض التمويل التي أصدرتها حكومة برلسكوني في شكل سندات إلى 7,35 في المائة لتفوق بذلك نسبة 7 في المائة التي جعلت دولاً كاليونان والبرتغال وإيرلاندا تطلب الحماية النقدية الدولية، وما لذلك من تبعات سلبية في المدى المتوسط والبعيد؛ كما أن إسبانيا التي عرفت أشهراً عجافاً بسبب البطالة والمظاهرات التي عمت شوارع مدريد وبرشلونة جعلت رئيس الحكومة ينادي بانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، كما أن هذا الربيع الرأسمالي وصل إلى قلب العاصمة الفرنسية، عندما قررت حكومة ساركوزي التي عوضتها حكومة هولاند اتباع سياسة للتقشق، وذلك بخفض الإنفاق الحكومي بمائة مليار يورو (140 مليار دولار) وحتى سنة 2016 اتقاءً لما وقع في إيطاليا. كل هاته الحكومات وصلت عن طريق صناديق الاقتراع؛ ولكن المواطن الأوربي لم يعد يثق في تلك الزعامات التقليدية الأوربية. ومعنى كل هذا الكلام أن الانتخابات ليست الوحيدة لضمان الاستقرار السياسي، فعامل الثقة من أكبر الركائز في تجذير أصول الحكم وبناء المؤسسات وتحقيق التنمية.
كما نتذكر اليوم الذي التقى فيه في باريس كلٌ من الغنوشي ومؤسس حركة نداء تونس، القائد السبسي في 15 أغسطس (آب) 2013 إلى درجة أن البعض سمى اللقاء بـ»لقاء الشيخين»، إذ اتفقا على ضرورة تبني الحوار الوطني كقاعدة أساسية ووحيدة في بناء الدولة والنظام التونسي؛ وهو اللقاء الذي كانت فيه بذور الخير لتونس. وتولد عن هذا اللقاء انطلاق الحوار السياسي في أقل من شهرين وبالضبط في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول)، بعد الاتفاق على تنفيذ مبادرة الرباعي الذي قاد الحوار الوطني، وهو الرباعي الذي منحت له جائزة نوبل للسلام لسنة 2015. وهذا الرباعي متكون من الاتحاد العام التونسي للشغل (نقابة العمال)، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (نقابة رجال الأعمال) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهيئة المحامين التونسيين (نقابة المحامين). والرباعي هذا نجح في وضع لبنات الحوار الديمقراطي على السكة الصحيحة سنة 2013، خاصة بعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد والنائب البرلماني عن التيار القومي محمد البراهيمي. وهاته سنة دائمة في أدبيات الانتقالات، ولنا في تجارب أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية عدة أمثلة، حيث إن التخلص من نظام عسكري أو دكتاتوري، يتطلب صبراً عميقاً من كل الفاعلين، ونكراناً للذات السياسية، وإعلاء كلمة الوطن على كل المزايدات السياسوية الضيقة، وتواجد فاعلين سياسيين كبار وحكماء، تسمع كلمتهم ولا ترد، ويتميزون ببعد نظر ثاقب للتجذير لعملية سياسية جديدة، في ظل حالة سياسية معقدة موسومة بالمجهول والخوف وكثرة المتدخلين، وتواجد أصحاب النظام القديم في مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية بل والأمنية والعسكرية منها. لذا ميز المختصون في مجال الانتقالات بين الانتقال الديمقراطي والتجذير الديمقراطي. فلا يعني انهيار رأس النظام السياسي العسكري الدكتاتوري حلولاً أوتوماتيكياً لفصل ربيع انفتاح سياسي، بل يمكن أن تقع كوارث تأتي على الأخضر واليابس لفقدان الشروط الضرورية وعلى رأسها تواجد أو تفعيل عمل الفاعلين السياسيين الكبار والحكماء، لهم قوة وقدرة على الاقتراح والإقناع ولمّ شمل القلوب والعقول المتناحرة؛ وليبيا أفضل مثال على ذلك. فبانعدام هاته الفئة انهارت القشرة الحامية للدولة وللمؤسسات، ليقتتل إخوة الأمس على كراسي سياسية فانية، وعلى براميل البترول، فاتحين الباب للدواعش وللإرهابيين الذين أصبحت ليبيلهم محجاً آمناً واستراتيجياً. فالانتقال الديمقراطي تعثر في هذا البلد رغم النوايا الحسنة للعديد من البلدان والمؤسسات الدولية المقتدرة، لأنّ هناك شيئاً لم يقع في ليبيا، وهو تفعيل عمل هؤلاء الحكماء... وفي تونس تواجدوا وأفادوا بل وأنقذوا المسيرة السياسية برمتها، ولولاهم لخاب أمل التونسيين في السياسة وأهلها. ونتذكر ماذا وقع لما اغتيل شكري بلعيد ومحمد البراهيمي، إذ ظهرت أزمة عميقة بين أصحاب الحكم الانتقاليين ممثلين في تحالف «الترويكا» بزعامة حركة النهضة وحليفها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي كان يترأسه المنصف المرزوقي، وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات بقيادة مصطفى بن جعفر، وبين أصحاب المعارضة، ممثلين في هيئات حزبية ليبرالية ويسارية كتحالف الجبهة الشعبية بقيادة حمة الهمامي وحركة نداء تونس التي كان قد أسسها الباجي قائد السبسي. ثم إن الأزمة كانت خطيرة جداً إلى حد أنه في تلك الفترة، كان اقتحام المجلس التأسيسي (البرلمان) مسألة وقت فقط، ناهيك عن المظاهرات المتتالية، كما أن المبادرات المتتالية التي كان قد تقدمت بها العديد من المنظمات والشخصيات التونسية لم تنفع في شيء. فقط خطة الرباعي الراعي للحوار الوطني هي التي أعطت أكلها لأنها كانت واقعية وذات مصداقية، ونابعة من أناس وطنيين ومقتدرين تهمهم مصلحة الوطن وتثبيت بناء وعي سياسي جديد قادر لأن يشتبك اشتباكاً استراتيجياً وتاريخياً مع هموم اليوم والغد، ومع أصول الانفتاح السياسي والليبرالي في منطقة تعمها الفوضى وبلد يحتاج فقط إلى بعض من الحكمة السياسية لإيصال البلد إلى بر الأمان؛ فتم إذن تبنيها من كل الفرقاء، وكان من أهدافها الرئيسية التسريع بالتصديق على دستور تونسي جديد، واستقالة حكومة القيادي في حركة النهضة علي العريض، لتعوض بحكومة تقنوقراط وانتخاب أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والتصديق على القانون الانتخابي... وهي أهداف واضحة، وعقلانية أنجحت كل المسار السياسي إلى اليوم.
إن تهيئة المناخ الاجتماعي والسياسي للحوار هي القاعدة الأولى في بناء أي دولة، وإذا تواجد فيها حكماء نبغاء عليهم إجماع وطني، فتلك هي المفازة التي تنجي البلاد من سنوات الفوضى والمجهول... ولا أخال دولة من دول العالم كيفما كان نوعها لا يمكن أن تنجب مثل هؤلاء الحكماء؛ فقط يجب معرفة كيفية حضورهم لسبر أغوار المشاكل المتراكمة بسبب المشاكل المتتالية، والتفاعل مع كل الفاعلين السياسيين، وطريقة التواجد الفعلي كقوة اقتراحية تجمع ولا تفرّق، توحّد ولا تقصي...