د. عبدالحق عزوزي
الإستراتيجية كفن وكعلم كما ندرِّسها لطلبتنا في الجامعات الدولية تُعنى بالمستقبل، وتحليل المشكلات وتجنبها، وتؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الإستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الإستراتيجية الأساسية التي يجب أن تعالَج لخدمة أي
مصلحة بنجاح. ومن خلال تحليل هذه العوامل وتقويمها، فإن الإستراتيجية تُنتج بياناً معقولاً يتضمن الغايات والطرائق والوسائل التي تخلق تأثيرات تؤدي إلى المستقبل المنشود. وبذلك، فإن الإستراتيجية تخدم أهدافاً، وتضمن المرونة والقدرة على التكيف، وتضع الحدود من أجل التخطيط السليم.
وتتضمن الرؤية الشخصية للخبير الإستراتيجي، نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل. ومع أن الخبير الإستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد بأنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل. وإذا قلنا إن الإستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الإستراتيجي وشغله الشاغل، وأنا أكتب هاته الكلمات أستحضر الأمسية التي نظمها مؤخراً واحد ممن له بُعد نظر ثاقب في عالم التنمية السيد عثمان بنجلون، في مدينة الرباط المغربية في شعار «لنحلم جميعاً بعالم جديد»، حيث انتقلت بنا الحفلة في تصور إستراتيجي وجمالي رائع قلَّ نظيرهما لما سيكون عليه البلد والمغرب والعالم من هنا مائة سنة.. وهو الشعار الجديد الذي اختاره البنك المغربي للتجارة الخارجية، والتي تتزامن مع تخليده للذكرى 55 لتأسيسه، ومرور 20 سنة على خوصصته. ويلخص الفيلم، مشوار البنك على مدى 55 سنة، وذلك من خلال شاب يجوب عدداً من دول العالم، ويتحدث عن حلمه الصغير، الذي كبر ووصل إلى العالمية. حلم البنك المغربي للتجارة الخارجية، بحسب الفيلم، يتمثّل في البيئة، والتربية، والتنمية البشرية، والانفتاح على العالم، خصوصاً إفريقيا، وتقارب الثقافات، والأمل في المستقبل.
وشعار الحملة «لنحلم جميعاً بعالم جديد»، كما جاء في كلمة رئيسها دعوة إلى التفاؤل والارتقاء بالبنك، وإيمان زبائنه بالمستقبل مع بنك متجدد في إطار مخطط إستراتيجي جديد للبنك، الذي يحمل رسالة بنك وطني أحدث موازاة مع الاستقلال، وتفرع في مختلف دول العالم، حيث إن البنك توجد فروعه في 33 بلداً عبر العالم، من بينها 10 بلدان في إفريقيا، ويطمح إلى أن توجد مستقبلاً في 54 بلداً إفريقيا.
والمهم عندي في هذا التصور الإستراتيجي وهاته الاحتفالية التي أبهرت الخاص والعام، وأبانت عن بُعد نظر وشغف ومسؤولية، هو الاستثمار في العامل البشري وبالضبط في الثقافة والتعليم والتنمية المستدامة، إذ بنت مؤسسة البنك المغربي للتجارة الخارجية لحد الآن أكثر من مائة وأربعين مدرسة في العالم القروي في إطار برنامج طموح يهدف إلى بناء ألف مدرسة، ولا أتصور عملاً يمكن أن يُشكر عليه الإنسان مثل هذا العمل، فهو استثمار في العلم، والعلم نور، وهو استثمار ضد الجهالة، والجهالة عار، وهو استثمار في التنمية المستدامة للبلد، وهذه فريضة، فالتاريخ وحده يمكن أن يحفظ لمن استثمر في هاته الأولويات هذه المكرمات التي ألهمهم الله عليها، ولهذا بفضل النبل الاجتماعي والروح الزكية والسجايا الكريمة، استطاع عثمان بنجلون أن يهب حياته في خدمة البلد، وأن يتمتع دائما برضا وتكريم وتشريف كل من عرفوه وعاشروه ونهلوا من أخلاقه وكرمه وأناقته الفاسية الأصيلة وما الذي قلته إلا نزر قليل من كثير.
قال عنه ذات يوم الدبلوماسي الأمريكي هنري كسنجر: «يذهب تفكيري إلى عثمان بنجلون كصديق، وكذلك كرجل حكيم وذي تجربة. أولاً، أشير إلى أنه لم يكن يوماً ما في حاجة لشق طريقه نحو المراتب العليا، وهو ما كان أحد أسباب تأثيره لأننا نعرف دوماً أن عثمان هو هو، ولا يحتاج إلى أية علاقة أو شبكات خاصة، إنه يرى بعيداً، ولهذا السبب حقق نجاحا استثنائياً. إن إحدى المميزات المهمة في نظري التي يمكن لشخص أن يملكها هي الجدية والقدرة على العمل. ويمكننا أن نجد دائما شخصاً مرموقاً ليعطينا جواباً تقنياً، لكن لا يمكن أن نجد شخصاً يمكن أن نعتمد عليه حتى عندما تكون الظروف صعبة.....»
والسيد عثمان تجمعني به علاقة الأخوة الصادقة، ولا أعلم أنه تدخّل في شأن إلا أن يكون في صالح وطنه ومواطنيه، ولا طلب منه أحد دعماً إلا وافاه إياه، وهو رجل فنان تستوقفه الأعمال ذات الحمولة الفنية الوازنة.. وترى تلك الأعمال تزداد نضارة ورونقاً بوقوف أمينة سره الدكتورة ليلى مزيان بجانبه.
الاستثمار في التربية والتعليم والبحث العلمي هي مكونات معادلة توازنية واحدة؛ فالوطن العربي كما أدافع عن ذلك دائماً في كتاباتي والمنتديات الدولية التي أنظمها بحاجة إلى إعادة النظر في هاته المنظومة مجتمعة وهي التي لوحدها تحقق التنمية والتنمية الهادفة.. فالمطلوب من العالم العربي الآن هو البحث عن قاعدة تعليمية صلبة ومتمكنة، وهذا يستلزم جهداً كبيراً من كل المعنيين بشأن التعليم لمعرفة مدى ملاءمة المناهج التربوية والنظام التعليمي المسطر مع الأهداف المرسومة والإستراتيجيات المرجوة، وهذا العمل يقوم به باستمرار مثلاً القائمون على الإدارة التربوية العامة في أمريكا وفي اليابان، خصوصاً إذا استحضرنا نسبة الأمية التي تصل في بعض الأقطار العربية إلى 60 في المائة في حين أن هذه النسبة تنعدم في الدول الصناعية، كما أنه ليس لدينا أي تصور في إعداد وإيجاد الحلول للمشاكل المستعصية في السياسات التعليمية.
وهذا الجانب يحيلنا على معادلة أخرى وهي التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي في عالمنا العربي؛ والتنمية المستدامة هي التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون الإضرار بقوة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً أيضاً بالنمو الاقتصادي.
ثم إن دولاً كاليابان والبرازيل وكوريا الجنوبية استثمرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في المورد البشري فأصبحت دولاً متقدمة وأصبح البحث العلمي فيها متطوراً وغدت دولاً يُضرب بها المثل... كما يكفي الرجوع إلى تقارير التنمية البشرية لتمثل ذلك.. فحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 فإن اليونان وحدها تترجم إلى الكتب اليونانية أضعاف ما تترجمه الدول العربية الاثنتان وعشرون، حيث لم يتجاوز مجمل الكتب المترجمة إلى العربية 300 كتاب، ومنذ سنوات، قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بنشر تقرير حظي بقراءة واسعة النطاق، وأثار الكثير من الجدل والإشكالية. وتناول التقرير بالدراسة والفحص تقدم المنطقة العربية باتجاه تطوير المعارف والمهارات والمؤسسات التي تحظى بتقدير في الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر. وقدمت تلك الدراسة والتي جاءت تحت عنوان «تقرير التنمية البشرية العربية: نحو بناء مجتمع المعرفة» شرحًا شاملاً في ما يخص «الخلل المعرفي» بالإضافة إلى وصفات شاملة للإصلاح. وأكد التقرير على أن هذه الإصلاحات يجب أن تكون بدافع عربي صرف؛ ولكنه اشترط أن يقوم العرب بأنفسهم بهذه الإصلاحات، مع تأكيده على ضرورة انفتاح العرب على العالم وزيادة مشاركتهم في الشؤون العالمية.
فمن مسؤولية الجميع اليوم في الوطن العربي الإقدام على اتخاذ قرارات شجاعة لتحقيق الملاءمة بين التكوين العلمي والمهني والتقني، وبين مستلزمات الاقتصاد العصري، وتشجيع البحث العلمي والابتكار، والانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة والاتصال..
يلمس مخالطو السيد عثمان، ولي الحظ أني واحد منهم، نبل الأخلاق المتأصّلة فيه، يزيدها بهاء تواضعه الجم الآسر؛ صفات تشبَّع بها في محيط أسرته الصغيرة مثلما تشرَّب من والده ووالدته فضائل الأخلاق الوطنية. أسرة تفانى أفرادها في خدمة الوطن والعرش؛ اتسمت تصرفاتهم دائماً بالوفاء والتضامن والتضحية.
كثيرون يعترفون له بالخدمات العديدة التي أسداها لبلده، ومثل أي مؤمن بالقيم الوطنية التي تسري في عروقه من أهل حاضرة فاس، فإنه تحمّل تبعاتها بشجاعة وجرأة وصبر وهدوء بل ونكران ذات، وكم نحن في حاجة في وطننا العربي اليوم إلى مثل هؤلاء، {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...}.