د. عبدالحق عزوزي
كتبت مراراً في صحيفة الجزيرة الغراء عن المرحوم عبدالهادي التازي، العلامة المغربي الكبير، وسأنقل القارئ الكريم في هاته المقالة إلى بحث متميز كان قد قام به عن اهتمام المغاربة اهتمامًا كبيرًا بالبحث حول أصول الكلمات العامية في اللغة العربية، وكان المرحوم عبدالهادي التازي قد فصَّل فيه الموضوع عندما كان قد
قدم تأليفاً مغربياً للشيخ أحمد الصبيحي -رحمه الله- يحمل عنوان: «إرجاع بعض الدارج بالمغرب إلى حظيرة أصله العربي»، حيث إن اهتمام المثقفين يتزايد بالموضوع حيث تطالعنا الصحف من يوم لآخر بالبحث عن هذا التعبير أو ذاك، ومن الطريف في هذا الصدد أن نسجل أنهم جميعًا يشاركون في هذا الحوار محاولين بكل ما استطاعوا أن يبحثوا عن حضور الدَّارج في المعجمات العربية.
وللفائدة فإن المرحوم الأستاذ الشاعر المغربي المعروف محمد الحلوي كان قد أخذ على عاتقه الكتابة حول موضوع الفصحى في العامية المغربية، ومن هنا كان معجمه الذي أصدرتْه عام 1988م شركةُ النشر والتوزيع بالدار البيضاء تحت عنوان «معجم الفصحى من العامية المغربية».. ولم يقف الأستاذ الحلوي عند هذا الحد ولكنه كان يعودنا على أن نقرأ له مقالاتٍ متتابعةً على صفحات جريدة العلم.. وتتبّع الأستاذ الحلوي بعناية طائفةً من العبارات والألفاظ الدارجة التي تجري على ألسنة المغاربة. والمهم في الموضوع أن تعليقاته لم تبق بدون تعقيب، حيث شهدنا عددًا كبيرًا من الأساتذة يتعقبون أقواله تارة بالتزكية والتأييد، وتارة أخرى بالمعلومات التي يضيفونها إلى ما يقوله مستدلين محتجين بهذا الأثر أو ذاك.
ولعلَّ من المفيد أن نعرف أن هذا الموضوع لم يبق مقتصرًا على العامية المغربية، ولكنه تعداه أيضاً إلى العامية المصرية والسورية.. لماذا؟ لأن المسلسلاتِ والأفلامَ الشرقية عندما دخلت بيوت المغرب تسربت معها كذلك لهجات القاهرة ودمشق.. وأخذ عامتنا بدورهم يستعملون تلك الألفاظ وكأنها من دارجتهم..! وهكذا أمسى المغاربة اليوم يهتمون أيضًا بدارج المصريين ودارج السوريين على نحو ما كان بالأمس من اهتمام أحمد تيمور باشا بلهجة ديار مصر واهتمام إسكندر معلوف بلهجة الشام.
وقد أشاد الأستاذ الحلوي وقبله الرحوم العلامة عبدالله كنون من أعز أصدقاء والدي العلامة إدريس عزوزي حيث كانت بينهما مراسلات عديدة، بأصالة السليقة العربية عند المغاربة وتمكُّنهم من قواعد اللغة العربية، وأن من المغاربة من كان لا يتكلم إلا بكلام معرَّب حتى في الأحوال العادية.
وقد ألقت بعضُ الحالات في العامية المغربية الضوءَ على الموضوع ومكَّنت من عدة ملاحظات:
أولاً: أن اللسان الدارج الذي كان إفرازًا أفرزتْه الفصحى لم يُفقد -في أغلب الحالات- الكلمة العربية بِنْيتَها وطبيعتَها رغم ما تَداولها من ألسن لم تكن العربية لغتها.
ثانيًا: أن توظيف العامة للكلمات واستعمالهم لها لم يكن عفوًّيا.. ففي كثيرٍ من الحالات نُفاجأ بأمثال وتشبيهاتٍ وصور تنم عن تذوقٍ للمعاني وإحساس بالجمال.
ثالثاً: أن استعمال العامي لم يُبعد الكلمةَ الفصيحة عن مدلولها العربي السليم، كذلك فهو لم يشوِّهُّما بما يُبعدها عن جَرْسها وإيقاعها، والتغييرُ الذي يلحقها يكاد ينحصر في تغيير حركاتها أو قلْب بعض حروفها.
رابعًا: أن صدر عاميتنا لم يضق عن احتضان الدخيل الذي استعملته إلى جانب اللفظ العربي للهجتها المحلية وهكذا فإلى جانب «الفصيح المُدَرج» نجد كلماتٍ مولدةً تركية وفارسية ويونانية وأمازيغية كذلك، وتعاملت معها كما تعاملت مع اللغة العربية.
ومن المهم أن نذكر هنا أن الأستاذ الحلوي قبل أن يقوم بجرد المفردات والتعابير بلغ إلى ثمانية وعشرين وسبعمائة مفرد ضمَّنها زهاء أربعةً وستين مثلاً زادت في توضيح المقصود، قبل ذلك أتى بما سماه (نحويات لابد منها) حيث أكد أن العامية المغربية كغيرها من اللَّهجات فيها ما يمكن اعتباره ضوابط يلتزم بها العامي وهو يتكلم.. وعَى تلك الضوابط من والديه في المنزل أو أقرانه في الشارع.
ويذكر الحلوي -رحمة الله عليه- نماذج من هذه النَّحويات فمثلاً تلتزم العامة الحرف (تا) أو(كا) في كل مضارعٍ يدل على الحاضر، فهم يقولون: فلان تيتعلَّم أو كيتعلم... إلخ، ويستعلمون الحرف (أش) كأداة للاستفهام بمعنى: كيف، كقولهم: أش خبرك؟ أش حالك؟ وبمعنى ماذا أيضاً في مثل: أش عملت؟ أش قضيت؟ ويستعملون كلمة (باش) ومعناها بأي شيء؟ في مثل قولنا باش طبع كتابه؟. ويستعملون كلمة (مناش) بمعنى من أي شئ؟ كقولهم مناش ربحت؟ ويستعملون (فوقاش) بمعنى متى؟ فوقاش سافر؟ ويستعملون كلمة (ماشي) في محل السّين الداخلة على المضارع مثلا ماشي نسافر غدًا أي سأسافر غدًا. ويستعملون كلمة (ياك لاباس) بمعنى ماذا حصل؟. ويستعملون كلمة (ناشْ) من كل الأفعال المنفية يختمون بها الفعل: قولهم ما عملْناش ما شارَ كْناش!.
ومن المفيد أن نعرف أن طريقة المبني للمجهول في الدارجة تختلف عن ما نعرفه في العربية، وهكذا نستعمل للدلالة على المجهول حرفين (أت) بتاء مشددة فنقول في فلان ضُرِب: فلان اتضرَب، وفي قُطِع الثوب: الثوب اتقطَّع!
ومن الملاحظ كذلك أنه لا توجد نون للنسوة عندنا في الدراجة، هكذا فإن واو الجمع وحدها هي التي تستعمل للذكور والإناث، فنقول الرجال خرجوا والنساء خرجوا كما نستعمل مثل ذلك للمثنى مذكرًا ومؤنثًا.
نقول مثلا: فاطمة وزينب خرجوا!
ولَكَمْ كان زملاؤنا الأساتذة المصريون الذين وردوا على المغرب للتعليم في المعاهد المغربية، يلاحظون مخاطبة المغاربة للمذكر بتاء التأنيث، يُسمع أحدُنا وهو يخاطب أخَاه أو ابنه: علاش تأخرتِ؟ علاش تكلمتِ؟.
هذا إلى أنَّ دارجتنا تبتدئ بالساكن: شْرَب الولد.. خْرَج الأستاذ ومن المفيد كذلك أن نعرف أن الدارجة بالمغرب لا يوجد بها «همزة « للمتكلم، وأن حرف النون وحده هو الذي يستعمل للجمع وللمتكلم الواحد فيقال أنا غَدَّ نْسافر! وتقول حاكيًا لوفدٍ أو جماعة « حْنا غدَّا نسافرو!.
ولا يكتفى في الدارجة بالنون في الدلالة على الجمع في المضارع لكننا نلحق، إلى جانب النون في البداية، واو الجمع في الآخر فنقول: نتعلمُوا نسافروا وينكر الاسم المفرد بذكر لفظة (واحد) قبل الاسم المقصود تنكيره، وهكذا نقول واحد الرجل! واحد المرأة!.
وتقلب العامة هاء الغائب واوًا وتنقل الضمة إلى ما قبلها فى مثل: عِوَض قَالَ، نقول قالْ لُو، وعَمِل له: عمل لُّو، ومن كلامهم: الغايب مالو شوار، فالواو عوض الهاء..
وكان مما يلاحظ في هذا الصدد قلب الحروف، وهي ظاهرة متفشية في عاميتنا وهي لا تخضع لضوابط ثابتةٍ، ولكنها وليدة الحس اللغوي الذي تتوفر عليه العامية، وهناك عدة أمثلة لما نقول:
الهمزة مثلاً قد تقلب قافاً عكس ما يحصل عند إخواننا المصريين عندما يقلبون القاف همزة في غير كلمة (القرآن) وكلمة (القاهرة)! وقلب الجيم دالاً فعوض جاز يقال داز، وعوض جسارة دسَارة ، وقلب الدال طاءً عربد: عربط، وقلب الشين جيمًا: المشحاح المجحاح.
وكان من العبارات العامية التي أوردها الحلوي قولنا: وقعت السرقة مثلاً في النهار (كهار) جعل الحلوي كلمة كهار مأخوذةً من كهر النهار ارتفع واشتدت حرارته، لكن الأستاذ صالح البكار وهو كان سفير تونس في المغرب يرى أن كلمة (كهار) أصلها (جهار) ونحن نعلم قولهم: « كلّ ما يكمكم يُجمجم أو يقمقم «، ويعلق الحلوي على ما ورد للمرحوم عبدالهادي التازي في تفسير كلمة السنداس التي جاءت في رحلة ابن بطوطة فيقول: إن السنداس كلمة عامية تعني الثقب والمجرى الذي يكون في بناية المرحاض.
ويأتي بكلماتٍ جديدةٍ نحو (المكفط) بمعنى المشمّر، والمشاوشة لنوعٍ من الصراع يعتمد على الأرجل، والمصاقرة التي تعتمد على السيف والعصا، وللحديث بقية.