د. عبدالحق عزوزي
مازلنا في البحث الرائع الذي كان قد قام به المرحوم عبدالهادي التازي، العلامة المغربي الكبير الذي بقي لعقود ناسكاً في محراب العلم والاجتهاد والتأليف، حول أصول الكلمات العامية في اللغة العربية ..
.. وهو تعبير عن اهتمام المغاربة بقضية الفصيح والعامِّي بالمغرب.. وهناك اهتمامات تجلت فيما كتبه المستشرقون على شكل معاجم أو مقـالات تعتمد على الاستقراء والتتبع، وهي لا تخلو من فائدة لمن يهتم بإرجاع العام إلى الفصيح، علاوة على أن أولئك المستعربين قد يهتمون أيضًا بقضية رجوع اللهجة البربرية أو بعضها إلى الأصول العربية.
فلقد رأينا الأسبوع الماضي أنه كان من العبارات العامية التي أوردها الحلوي قولنا: وقعت السرقة مثلاً في النهار (كهار) جعل الحلوي كلمة كهار مأخوذةً من كهر النهار ارتفع واشتدت حرارته، لكن الأستاذ صالح البكار وهو كان سفير تونس في المغرب يرى أن كلمة (كهار) أصلها (جهار) ونحن نعلم قولهم: «كلّ ما يكمكم يُجمجم أو يقمقم»، ويعلق الحلوي على ما ورد للمرحوم عبدالهادي التازي في تفسير كلمة السنداس التي جاءت في رحلة ابن بطوطة فيقول: إن السنداس كلمة عامية تعني الثقب والمجرى الذي يكون في بناية المرحاض. ويأتي بكلماتٍ جديدةٍ نحو (المكفط) بمعنى المشمّر، والمشاوشة لنوعٍ من الصراع يعتمد على الأرجل، والمصاقرة التي تعتمد على السيف والعصا، كان من جديد ما قرئ حول موضوع الألوان عند العامة، أنها أي العامة وظَّفت الطبيعة بأشكالها في تشخيص الألوان وتحديدها، وقد ظهر حبهم وافتتانهم بها في مظاهر شتى من حياتهم في الاحتفاء بالربيع والمهاداة بالزهور، وغرسِها في البيوت وتكريم الموتى بها في المقابر، ونظمها قلائد تزين بها الأعناق وأكاليلَ تُتوج بها الرؤوس، فمن السماء وزرقتها جاء اللونُ السماوي وضوء الصباح، ومن الأرض جاء اللون الحجري والرمادي، ومن الزهور جاء اللون الوردي والقرنفُلي واللون القيقلاني.
ومن الفواكه والمشروبات جاء النعت بالخُوخي والبنَاني والقُوقي والقرعي والخياري واللوزي والرماني والفلي والقزبري والخمْري والقهوي و(طاب ما طاب) هذا إلى اللون الزيتي والسمني والليموني والبرقوقي. ومن الطيور أخذوا النعت باللون الكناري والحمامي والفاختي، ومن الحيوان اللون الجملى لأنه يشبه وَبَـر الجمال، ومما يندرج في أخذ النعوت من الطبيعة نعتهم الثوب مثلاً بالخابوري بمعنى الأصفر الفاقع اللون، وهو في الأصل شجر له نور أصفر.
وقد كان المرحوم عبدالهادي التازي آثر في الثمانينيات الحديث عن كلمة تُستعمل بكثرة في المغرب تنعت بها السيدةُ المنحدرة من الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أية سيدة تتميز بخلالٍ رفيعةٍ نبيلة. هذه الكلمة هي (لالَّة) التي قال عنها في أحد تآليفه (د.التازي: التاريخ الدبلوماسي للمغرب المجلد الأول ص83 رقم إيداع قانوني 25 /1986م) اعتمادًا على بعض المصادر التركية (محمد فريد بك المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية، دار الجيل، بيروت 1379هـ= 1977م، ص106): قلت إنها من أصل تركي، لكن الأستاذ السفير صالح البكري كان قد نشر رسالةً مفتوحةً في جريدة (العلم) في عددها بتاريخ 23 يولية 1997م يتساءل عن حقيقة الكلمة، واستطرد بإثارة عدد من المواضيع التي استحقت من القراء جملةً من التدخلات والاستفسارات والإضافات المفيدة جدًّا للذين يهتمون بصلة العامية مع الفصحى.
وهكذا قرأنا للزميل الدكتور عباس الصوري تعليقًا مليئًا بالفوائد التي كنا في حاجة إليها مثل صلة الكلمة بلغة الولوف السينيغالية.
كما قرأنا للسيد محمد كمال الخمليشي تعليقًا رجع فيه إلى كتاب الشيخ الصبيحي الذي ذكرناه في مقالتنا للأسبوع الماضي.
ثم كان تعليق السيد محمد الصبار الذي جعل عنوان كلمته هكذا: «لالَّة أصلها لالا الأمازيغية، ثم كان تدخل السيد عبد السلام الشفيرة الذي أثار أيضًا نقاطًا في غاية الأهمية مؤكدًا أن لغتنا العامية لغة البساطة والسهولة والوضوح فيها ما هو منحرف عن أصله الفصيح إما بالنقصان أو بالحذف والإضافة أو بالتغيير أو بالنحت أو بالدخيل أو بالولادة، وينقل عن ابن الأعرابي: الأسماء كلها لعلة، خصت العرب ما خصت منها، من العلل ما نعلمه ومنها ما نجهله فالإنسان سمي إنساناً لنسيانه، والبهيمة سميت بهيمة لأنها أبهمت عن العقل والتمييز.
وقد ختم هذا الحوار السيد علي العراقي بالميل إلى أن لفظ (لالا) ربما كان دخيلاً على اللغة العامية من أصل تركي.
وذكر كلِّ هذه الأسماء يبرز أن الحوار على أشده في الأوساط المغربية عبر الصحافة حول الفصيح «المدرج» أو رجوع الدارج إلى الفصحى، وقد تبع هذا الحوار نقاش جاد وحاد حول كلمة (المبرّز) وهل أن صوابها بكسر الراء أو فتحها؟ ثم تبع هذا تعليق حول كلمة: خرج إلى التقاعد، أو أحيل على المعاش، أو استراحة المحارب تعريبًا للتعبير الفرنسي (Le repos du guerrier).
وقد كان مما أثار الانتباه حقًا ما ردده الأستاذ صالح البكاري في معلومة له جديدة بعنوان (كيف: أداة تشبيه فاتت اللغويين).
ونظرًا لأهمية هذه المعلومة وصلتها بالمرحوم محمد عبد السلام هارون محقق البيان والتبيين والحيوان للجاحظ، الذي جرد عشرات الألفاظ العربية مما لم يرد ذكره في المعاجم العربية التي بين أيدينا.. فقد أورد الأستاذ البكاري ما مفاده أنه من اللهجة التونسية أداة التشبيه (كيف) يقابلها في اللهجة المغربية (بحال) والناظر إلى هاتين الصيغتين يدرك ما بينهما من تقاربٍ في دلالتهما على الكيفية والحالة... وإذا قلت: فلان كيف فلان؛ فإن المعنى أنهما «زي بعض»، كما يقولون في مصر، وهكذا يتبين أن (كيف) الموسومة عند اللغويين بأنها أداة استفهام هي أيضًا أداة تشبيه، ولكن لا أثر لوظيفتها هذه في كتب اللغة والمعاجم...
ويقول الأستاذ البكاري: إن هذا الرأي تعزز عنده بما وجده في شعر دُرَيد بن الصِّمة حين يقول في وصف جري فرسه بصيغة المؤنث:
لها حَضَر كيف الحريقُ، وعقبها
كجسم الخَسِيف بعد معمعة الورد
وهو يشبه الفرس في عدوه بالنار كما قال العسكري في ديوان المعاني. ولا أدري - يقول البكاري - على أي أساس ورد لفظ الحريق بالرفع إذ إنَّ أدوات التشبيه كلها تجر بالإضافة.
ويضيف الأستاذ البكاري إلى كلمة كيف كلمة (تقول) التي تستعمل في بلاد المغرب على أنها أداة تشبيه وعلى نحو ما ورد في ديوان دريد:
تقول هلالٌ خارجٌ من غمامة
إذا جاء يجري في شَلِيل وقَوْنَس
ومن اليسير استبدال كلمة (تقول) بكلمة (كأنه)، وفي دارجتنا المغربية تعبير: (سُلَيمان تقول أباه يونس) يعني كأنه أبوه! وهكذا احتفظت كلمة (تقول) أيضاً باستعمالٍ وظيفي فات اللغويين.