د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الخطوة التي أقدمت عليها روسيا بالزج بنفسها في أتون الحرب الأهلية السورية لم تكن مفاجئة لمن يتابعون الوضع الروسي، ومن يتابعون أوضاع المنطقة بما في ذلك التراخي الأمريكي في اتخاذ مواقف حاسمة مبكرة مما يجري في سوريا.
لذا ولفهم هذا التدخل علينا أن ننظر للخلفيات الجيو - سياسية والاقتصادية لهذا التدخل، لأن الروس دوما ينظرون لأنفسهم على أنهم دولة عظمى. فلم يكن من السهل على روسيا التي كانت تقود اتحاداً ضخماً يتقاسم النفوذ العالمي مع الدول الاستعمارية الغربية التقليدية أن ترى نفوذها يتقلص وحجمها يتقزّم بشكل سريع وغير مسبوق.
فروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي حققت أيَّام الاتحاد السوفيتي السابق تطورا تقنيا وعلميا لا بأس به، مصدره الأساس منافسة الحلف الأطلسي في مجال التقنيات العسكرية وتقنيات الفضاء تحديداً، وتركزت جميع أبحاث الاتحاد السوفيتي السابقة في روسيا الاتحادية وأقاليمها المختلفة، إلا أن الاتحاد السوفيتي مر بمرحلة سياسية واقتصادية شمولية فاشلة أدت به إلى التفكك والانهيار وإلى استبدال النظام الشمولي بديمقراطية تشبه ديمقراطيات الأنظمة العسكرية الأفريقية والعربية.
وعلى المستوى الاقتصادي لم تنجح روسيا كثيراً في خلق اقتصاد صناعي منافس للدول للاقتصادات الغربية رغم محاولاتها المستميتة لتسويق بعض المنتجات الصناعية كصناعة الطائرات أو صناعة السلاح إلا بشكل محدود في مناطق نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق المتبقية التي لم تطلها الديمقراطية، واستمرت تخسر مناطق نفوذها في الخارج واحدة تلو الأخرى. ليس ذلك فحسب بل إن دولاً مثل دول البلطيق، ودول أوروبا الشرقية وحتى أوكرانيا انضمت للاتحاد الأوروبي ولحلف الأطلسي وأخرى تنتظر دورها فتراجع دور روسيا العالمي إلى حد كبير. وتحولت روسيا في الداخل إلى دولة ضعيفة اقتصادياً تعتمد على جانب اقتصادها الريعي من النفط والذهب إلى حد كبير.
ومع تراجع أسعار النفط بشكل كبير أصبح الأفق الاقتصادي لروسيا أكثر قتامة من أي وقت مضى، وتبع ذلك تململ شعبي واسع النطاق فلم يكن من بد للنظر للخارج.
العوامل الاقتصادية الداخلية والاحتمال الكبير لفشل التدخل في أوكرانيا وإدراك روسيا حتمية تقديم تنازلات في أوكرانيا التي ستضع حلف الناتو على عتبات باب روسيا دفع روسيا للتحالف مع إيران لدعم صورة النظام في الداخل للظهور بمظهر القوي المهيمن، ومن هنا برز تحالف الروسي - الإيراني - العراقي للتدخل في سوريا بمشاركة الصين على استحياء. ولكن هذا التحالف على عكس تحالف دول الناتو، هو تحالف لأطراف غير متجانسة لا تثق ببعضها. فروسيا تغار كثيراً من النمو الاقتصادي الصيني وتعرف جيداً أن للصين مصالح مع الغرب وعلى وجه الخصوص مع الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تضحي بها من أجل روسيا. وهنا لا بد من الكلام عن قوة أخرى داعمة لروسيا وهي الهند، وهي قوة صاعدة أخرى تتحالف مع روسيا مع إدراكها أيضاً أن التقنيات التي تنشدها موجودة في الغرب وليـــس في روسيا، وهي تشتري السلاح الروسي نقداً ولا تساومه بالنفوذ، وتشتريه خاماً لتطوره وتضيف له تقنيات هندية متطورة. بقيت إذاً إيران التي تتشابه مع روسيا في أمور كثيرة، ولكن الأخيرة وقعت ما سمي الاتفاق النووي وهو في الحقيقة اتفاق اقتصادي استراتيجي أكثر منه عسكري يهدف لأمرين أساسيين: الأول، الاستفادة من السوق الإيراني بما في ذلك مناطق نفوذها في آسيا الوسطى والتي كانت تشكل جزءاً من الاتحاد السوفييتي؛ والثاني، إبعاد إيران عن النفوذ الروسي ومنع الأخيرة من تشكيل منطقة نفوذ في منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية. وهذا ما قرأت فيه روسيا عملية إبعاد لها كلياً عن المنطقة بشكل يفقدها أي وزن استراتيجي.
ووسط الإرهاق الإيراني الواضح في الشرق الأوسط وعجزها المحتمل عن الاستمرار في حماية النظام السوري المترنح ومنعه من السقوط، وإحساسها المرير أنها أصبحت خفيفة الوزن وبلا نفوذ استراتيجي، قررت روسيا التدخل لتعويم النظام مهما حمل ذلك من مخاطر عسكرية، ومن احتماليات كبيرة للفشل. فلم يتبق لروسيا لتعويض انحسار نفوذها عالمياً إلا المقامرة بالتدخل لإنقاذ حليفها الوحيد المتبقي في المنطقة وتغطية ذلك بطلب من النظام السوري اليائس ذاته وبتحالف صوري هش. فما يبدو للعالم الخارجي مغامرة غير مفهومة، تراه روسيا ضرورة ملحة حتى ولو أدَّى لصب الزيت على نيران الحرب المشتعلة أصلاً.
هنا تبقى أسئلة انعكاسات هذا التدخل مستقبلاً على سوريا وعلى المنطقة، فهناك احتمال كبير أن يوحد هذا التدخل فصائل المقاومة ضد من قد يرونه عدواً مشتركاً، بحيث تؤجل هذه الفصائل خلافاتها التي كان يتلاعب بها النظام. هذا مع احتمال انضمام بعض العناصر العلوية للمقاومة لأنّها الآن ستبرر ذلك بالمقاومة ضد تدخل خارجي للحفاظ على السيادة السورية، وهذا قد يلخبط الورقة الطائفية التي تعول عليها إيران في نشر نفوذها المنطقة. فليس أمام إيران غير محاولة مشاركة القوة الروسية في مقاسمة الكعكة، ولا يستبـــعد مطلقاً أن تتحرك إيران بشكل عكسي في حال أحست أن روسيا قررت الانفراد بالكعكة السورية بعد إفراغها من محتواها الطائفي الذي تعول عليه إيران كثيراً.
وربما يكون من المحتم أن يؤجج هذا التدخل الروسي المفاجئ الصراع في سوريا ويجلب عدداً أكبر من المجاهدين والمقاومين للتدخل الروسي من كل مكان، وذلك باستحضار الجهاد الأفغاني بكل ملامحه بما فيها نشوة الانتصار ولا سيما أن التدخل الروسي هذه المرة سينظر له على أنه تدخل في قلب المنطقة الإسلامية وأقرب بكثير من تدخلها في أفغانستان، مما يشكل عامل دعاية كبيرة لحشد القوى المقاومة ولتجنيد المقاومين، فقد تكون روسيا بتدخلها هذا عادت للمربع الأول من صراعها المبدئي مع القوى الإسلامية.