علي الصراف
نبيل وسرجون شابان من بلدين عربيين مختلفين ويعملان حيث أعمل.
من حين إلى آخر كانا يغلقان عليهما باب غرفة لا تزيد مساحتها عن أربعة أمتار مربعة، ولا تسمع
لهما صوتا، ويتصرفان كشخصين لا يعرف أحدهما الآخر. إلا أنهما، في أحيان أخرى، يغرقان في جدل ساخر، أو ينفجر أحدهما بصب اللعنات والشتائم، فيما ينفجر الآخر بالضحك، على نحو يدفع إلى الضحك أيضا.
لم أكن أعرف ماذا يجري داخل تلك الغرفة. وحاولت مرارا أن أتجاهل الصرخات لكي أتحاشى أن أكون طرفا ثالثا. وكنت أخاطب نفسي بالقول إنه طالما لم يخرج أحد من الغرفة قتيلا، فلعل الأمر قابل للتحمل.
حتى جاء يوم وسمعت ضربات على الطاولة وصراخا عنيفا. فقلت، أخيرا، حصل ما كان متوقعا. وجولة من سفك الدماء قد بدأت.
خرجت من مكتبي لكي أتبين الأمر لعلي أنقذ جريحا، أو أهدئ من روع الآخر.
طرقت الباب، باحترام للخصوصيات، ودخلت لأجد كل شيء في مكانه. لا طاولة انقلبت، ولا فأسا رُفعت، ولا دماء سالت، وقد جفلا لما تجاوز الحد من صراخهما.
لم يكن هناك أي ضحايا، إذن. فقط كانا يتابعان لعبة لكرة القدم. طلبت منهما أن يخفضا صوتيهما، لأنه يؤثر على عمل زملاء آخرين، وأغلقت الباب خلفي عليهما من جديد، في إشارة مني على الرضا بأن يواصلا المعركة، بانفعال أقل.
نبيل يدعم فريق «ليفربول»، فيما يدعم سرجون فريق «مان يونايتد». وكلاهما يتصرف حيال دعم فريقه كما يتصرف البريطانيون الآخرون.
البريطاني يمكن أن يغيّر «صديقته»، إلا أنه لا يغير ثلاثة أشياء حتى الموت: لكنته التي تدل على مكان نشأته، والحزب الذي يصوت له في الانتخابات، وفريق كرة القدم الذي يدعمه.
ومنهم من يتحول إلى «متطرف» في الشأن الأخير. وهؤلاء يسمون عادة «هوليغنز». وهم فوضويون إلى حد اللعنة وقد يرتكبون أي عمل شائن. وإذا ما رأوا مناصرا لفريق آخر فليس من المستبعد أن تنشب معركة.
الغريب في الأمر هو ان العداوة تهدأ كما تهدأ فورة القهوة إذا رفعتها عن النار. مع ذلك، لم أستطع أن أفهم، كيف حافظ نبيل وسرجون على صداقتهما، في بيئة العداء الساخن بينهما.
لم أر موظفين اثنين يجالس أحدهما الآخر قدرهما. كما أني لم أر اثنين يتشاركان الرغيف او كأس الشاي مثلهما. يضحكان معا، أكثر مما يفعلا مع أي أحد آخر. ويقفان إلى جوار أحدهما الآخر ليناقشا شؤونا لا حصر لها. ورغم «العدواة»، فقد ظل الاحترام الطبيعي سائدا بينهما.
كان الأمر محيرا تماما بالنسبة لي. كنت لا أعرف هل أحسدهما على الصداقة الوطيدة، أم أخشى عليها من التنازع.
سهل جدا أن يسخر أحدهما من فريق الآخر، أو أن يصب اللعنات على مدرب فريقه هو، أو أن يهاجم لاعبا من لاعبيه أفلتت منه فرصة لتسجيل هدف في شباك «العدو». وهما يتنافسان في «تحليل» مجرى المباراة وكأن كلا منهما جوزيه مورينيو آخر، المدرب الذي ظلا ينظران إليه معا باستخفاف وكأنه قشه في مهب الريح، وذلك رغم أن فريقه تشلسي حمل كأس الدوري الانجليزي لعدة مرات.
لم أفهم ألا متأخرا أن سر الصداقة بينهما يعود إلى أنهما، ولو كانا خصمين، إلا انهما في الدوري الإنجليزي يواجهان 18 عدواً مشتركاً. وهو ما يعني أنهما يتشاركان أفراحاً وأتراحاً أكثر مما يتنافسان بينهما عليه.
في «دوري الحياة» الذي نخوض مبارياته الطاحنة، كم «عدو مشترك» يوجد لنا معا؟
أمامنا، مباراة مع الإرهاب، وأخرى مع الطائفية، وثالثة مع التهديدات الخارجية، ورابعة مع الفقر، وخامسة مع الأمية، وسادسة مع البطالة، وسابعة مع تعقيدات التنمية... ويا له من دوري صعب.
المشكلة الأعقد، هي أنه يتعين علينا أن نكسبه معا!
مدرب مثل مورينيو يمكنه أن يحمل كأسا على حساب غيره، ويمضي. ولكن قادة من طراز خاص جداً، ورفيع جداً، في دوري الحياة، هم الوحيدون الذين يمكنهم أن يجعلوا الكسب مشتركا.
شواهد الأيام التي أثبتت أن السعودية تكسب إذا كسبت الكويت، والإمارات التي تكسب إذا كسبت البحرين، عادت لتثبت أن مجلس التعاون الخليجي يكسب إذا كسبت اليمن. وأن الكل يكسب إذا كسبت مصر.
يجب الاعتراف دائما بأن هذا المسار، كان على الداوم مساراً خليجياً أصيلاً، وكم كان يجدر أن يسود كقاعدة لكل علاقة عربية - عربية.
وبالأحرى، فإن «نكسب معا»، هو المعنى الحقيقي الوحيد لكلمة «تضامن».