علي الصراف
ضياع العقلانية الذي دفع بأوروبا لكي ترسل بوارجها وطائراتها للتصدي للهجرة غير الشرعية في البحر الأبيض المتوسط، كان بكلفته المادية أكثر عشرات المرات من كلفة بناء أي «مخيم إنساني»، على غرار مخيم كاليه.
وفوق ذلك، فقد ثبت أن تلك البوارج تحولت من أداة لمنع الهجرة الى وسيلة نقل لحمل المزيد من المهاجرين الى الشواطئ الأوروبية!
إذا كانت المسألة مسألة هستيريا قائمة على المخاوف المسبقة حيال «ضغط» الهجرة غير الشرعية، فان البوارج والجدران التي تمتد على طول الحدود، لن توصل الى حل مشكلة تلك المخاوف، لأنها بالأحرى مخاوف داخلية. إنها مخاوف ثقافية، قائمة على أكداس هائلة من الافتراضات الخاطئة.
أما إذا كانت مسألة «تكاليف» اقتصادية واجتماعية، فهذه يجب أن تكون قابلة للحساب.
ولدى أي حساب، سوف يتضح أن المعالجة محدودة التكاليف، وإن عوائدها أكبر من تكاليفها، وأن أوروبا تستطيع أن تستوعب كل أولئك المهاجرين، وأن تحتوي «الضغط».
الهجرة مفارقة إنسانية عجيبة. ففي وقت من الأوقات، كانت تلك «البوارج» (مثيلاتها في ذلك التاريخ)، ترسو على السواحل الأفريقية لتستجلب العبيد عنوة، وتنقلهم وهم مقيدون بالسلاسل، الى «العالم الجديد» الذي كان بحاجة الى عمالة رخيصة. ولا يجانب الحقيقة القول إن ذاك «العالم» نشأ على أكتافهم، وجنى ثروته من آلامهم.
اليوم يحصل العكس. «العبيد» الجدد هم الذين يغامرون بحياتهم من أجل الوصول الى شاطئ الأمن والسلام والرعاية التي يفتقدونها. الشاطئ تغير طبعا. كما تغيرت أوطانهم أيضا.
ولكن، مثل كل المفارقات الكبرى الأخرى، فإنها يمكن أن تتحول من «أزمة» الى «فرصة».
«أوروبا بحاجة الى هجرة». هذا استنتاج حسابي عاقل. وتكاليف الإيواء وإعادة التأهيل، ليست كبيرة حقا. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن جيشا من العمالة الرخيصة (التركية غالبا) كان قد ساهم في إرساء الكثير من جوانب البنية التحتية في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن البنية التحتية المتهالكة في أرجاء أوروبية عدة يمكنها أن تستفيد من هذا «الطوفان» الذي جاء من دون سلاسل.
لماذا البنية التحتية؟ لأنها في الغالب من مسؤولية دولة تنفق على مشاريعها من عائدات الضرائب، وكلما كانت الكلفة أقل، كان ذلك أفضل لدافع الضرائب.
«شرعن ما لا تستطيع وقفه». هذه قاعدة قانونية يستند اليها القضاء في بريطانيا، وربما في دول أخرى أيضا. إنها تقف على منطق حسابي صارم، هو منطق الدولة العاقلة. القانون كله ينهار إذا لم تجد سبيلا لحمايته. وعندما لا تستطيع الوقوف في وجه ظاهرة اجتماعية، فمن الخير للظواهر الأخرى أن تحمي نفسها بإعادة تنظيم ما لا يمكن وقفه.
هذا يعني، أنك بدلا من أن ترسل بوارج لكي تتحول الى وسائل نقل، فربما كان من الخير أن تنشئ مكاتب لاستقبال الراغبين بالهجرة! (ربما لتجد نفسك قادرا على الانتقاء، وعلى تحديد وجهة التوظيف، وعلى الموازنة بين النسب، بطريقة أفضل).
بهذه «الموضوعية» الباردة تعمل الدولة العاقلة أصلا. السؤال الذي يمكن توجيهه لكل أوروبا هو: أين ذهبت الموضوعية العاقلة؟ من خطفها؟ وكيف خُطفت؟
350 ألف مهاجر، وسط 250 مليون إنسان لن يشكلوا تهديدا «للهوية المسيحية لأوروبا». هذا النمط من الكلام عن «الهوية» يشكل، بحد ذاته، تمييزا مسبقا وخطيرا ضد نحو 20 مليون مسلم أوروبي عاشوا في أوطانهم، على مر العقود، دون أن يشكلوا «تهديدا» لتلك الهوية المفزوعة بلا مبرر.
المعدلات الأوروبية تشير الى أن 70% من المهاجرين يجدون طريقهم في سوق العمل. وهذا يعني، أنهم ليسوا بالضرورة عبئا على أي نظام للرعاية الاجتماعية. بل العكس تماما.
في المقابل، فإن هؤلاء الضحايا لا يطلبون الكثير. إنهم يريدون العيش بأمن وسلام، ليقدموا للمجتمعات التي تحتويهم ما يقدمه البشر الآخرون.
أوروبا ليست فقيرة، ويمكنها أن تستوعب «الضغط» بسهولة لو أن المعالجات استنأنفت المنطق. وبينما يمكن لأنظمة الرعاية في دولة الاستقبال أن تحصل على حقها، من عائدات عمل هؤلاء الناس، فإن جزءا من ذلك الحق يمكن أن يسهم في رعاية راغبين آخرين بالهجرة.
هكذا، يمكن للإنسانية أن تخدم نفسها، من دون الحاجة الى جلبة، ومن دون الحاجة لا الى نفاق اليسار الأوروبي ولا الى عنصرية يمينه.