د. محمد البشر
سقطت غرناطة عام 1492ميلادية، كما يعلم البعض، وكانت آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وكان الملكان الكاثوليكيان فرناندو، وإيزابيلا هما قادة ذلك السقوط، بل إن أحد شروط إيزابيلا للموافقة على الزواج من فرناندو هو القضاء على المسلمين، بعد ذلك السقوط بنحو من إحدى عشرة سنة، ولد رجل من أسرة نبيلة هو السيد - مندوثا، وبعد أن شبّ، شغف بالأدب والشعر، فأصبح أديباً بارعاً متميزاً، وكان في مؤلفاته ذات العلاقة بالمسلمين أقل حدة من معاصريه، والذين تبعوهم فيما بعد، وأقرب إلى الإنصاف، وربما أنه استمد ذلك من والده الذي كان قائداً لجيش الملكين الكاثوليكيين ضد المسلمين، ومن بعد حاكماً للمدينة بعد سقوطها، فكان يرى في المسلمين وثقافتهم إلهاماً للأخلاق الفاضلة.
لم تكن آراؤه، ونقده لبعض القادة والزعماء مقبولاً لدى الكنيسة، وإدارة البلاد، ومحاكم التفتيش التي منعت نشر الرواية المنسوبة إليه والمسماة «الصعاليك» لكنها نشرت بعد وفاة من تم انتقادهم، وفي فترة من فترات التسامح الجزئي الذي كان يحدث في فترات محدودة أثناء مسيرة التاريخ الأندلسي بعد السقوط، ومع ذلك فقد تم تنقيحها وحذف بعض أجزائها ذات الطابع المتقدم في نقد بعض أفعال القادة.
وكتاب حرب غرناطة الذي ألّفه مندوثا، شهادة من شاهد عيان لتلك الحرب عاصرها، وهي التي تُسمى بحرب البشارات، نسبة إلى جبال البشرات التي اعتصم بها بعض المسلمين في محاولة أخيرة وشبه يائسة لاسترجاع أرض أجدادهم التي طرد بعضهم منها، وتم إذلال من بقي منهم، سواء من خلال الإجبار على التنصر، والتخلي عن الثقافة واللغة والملابس وحتى الموسيقى، والحمامات التي اعتاد الأندلسيون المسلمون على ارتيادها كجزء من ثقافة النظافة لديهم.
وإن كان يصف المسلمين بالأعداء، وأحياناً كثيرة يصف بعضهم باللصوص، والقتلة والمخربين إلاّ أنه أيضاً يكيل النقد ضد المسيحيين أنهم قاموا بعمل غير أخلاقي مشين، وبنقد جورهم وظلمهم للمسلمين في مواقف كثيرة، كما أنه يرمي باللائمة على أطماعهم في أحيان كثيرة التي تخرجهم من الهدف والغاية التي أُوكلت إليهم، وهي أخذ بلاد المسلمين في الأندلس، ومحاولة دمجهم مع المجتمع في حد زعمه، وهو الذي كثيراً ما يصل إلى قناعة تقول: إنه يصعب دمج المسلمين مع النصارى، حتى وإن نصّروا بالقوة لأن الإيمان بالله وبالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبالإسلام، راسخ في القلوب ويصعب انتزاعه بالقوة أو بالإغراء.
كان بحق يصف المعارك بشيء من الحيادية، وإن كان يلقب المسلمين بالأعداء، فهو يذكر المعارك التي انتصر فيها المسلمون، ويذكر الأعداد التي تم قتلهم من النصارى بأيدي المسلمين، كما يبين خلافات قومه وتنافسهم، قبل المعركة وأثناءها وبعدها، وهو أيضاً يصف هزائم المسلمين ويمجد انتصارات النصارى، ويثني على قادتهم وأعوانهم.
لعلنا نذكر أن هذا الجمع الثائر من المسلمين لم يجدوا العون الكافي، أو حتى غير الكافي من قادة الدول المسلمة المجاورة والقادرة مثل الجزائر، والمغرب، وتركيا، ولكن كانت الجزائر مشغولة بمحاولة السيطرة على تونس، والمغرب منشغل بحروبه الداخلية، وخلاف قادته، أما تركيا التي وصلت الجزائر، فقد منعها انشغالها بحروبها مع المجر وروسيا من النظر إلى الأندلس، والتفكير في استردادها، لقد بقي هؤلاء الثائرون دون إمداد، سواء بالسلاح أو الرجال، وظلوا كذلك، حتى تم القضاء عليهم.
لقد جعلوا عليهم ملكاً يُقال له ابن أمية، وهو من سلالة الأمويين الذين نقدوا الملك، بعد الخليفة الصوري هشام المؤيد، ومن تبعه من أسماء لخلائف لا يستحقون حتى ذكر اسمهم، وهناك رجل آخر سليل أسرة حاكمة يُقال له ابن عبد، وكذلك ابن فرج، ولكن كل منهم قتل صاحبه، إما طمعاً في الزعامة أو بسبب خلاف في وجهات النظر.
ويصف مؤلف الكتاب السيد مندوثا أن زعيم المسلمين ابن أمية قاسٍ وطماع، وأنه استطاع في البدء أن يخدع الكثيرين، إلا عمه ابن جهور الذي ترك جزءاً من الثروات لابن أخيه بينما احتفظ هو بالنصيب الأعظم، وحمله معه وقرر الهروب إلى بلاد البربر، كما يسميها، وتعلل بأنه ذهب باحثاً عن جبال معلومة ليقوم بثورة أخرى تؤرق النصارى الذين سلبوهم ملكهم ودينهم وثقافتهم، لكنه توفي من ألم جنبه وهو في طريقه، وقد مات وهو شيخ كبير، شعر بالحزن والندم، وقد حزن ابن أمية حزناً شديداً ليس لفقدان عمه وحسب، بل لفقده لرجل شديد المراس في الحروب وحكيم تعلم من السنين واستفاد من الأحداث التي مرت به في مسيرة عمره المديدة، وليس كما هي حال الكثير، الذي تمر السنة تلو السنة دون أن يضيف إلى رصيد حكمته شيئاً يُذكر، وإنما يستمر فيما جُبل عليه، وكأن العوامل البيئية لا تؤثر فيه، فهو رهين الموروثات الجينية التي تراكمت وتمازجت في جسده من أجداده لأمه وأبيه، وأخذ الممتلكات والمقتنيات التي كانت بحوزة عمه.
لن أطيل الحديث حول هذا الكتاب وصاحبه، لكنه مليء بالكثير من الأحداث التي جلها عن المعارك والحروب، واصفاً إياها وصفاً لا بأس به، وأجمل ما فيه ذلك الإنصاف الجزئي الذي قلَّ نظيره عند مؤرخي عصره، ومن بعدهم.
إن للمورسيكين وهم المسلمون الذين اجبروا على التنصر مآسي يندى لها الجبين، وما زالت الأضواء غير مسلطة بالقدر الكافي على مأساة هذا الشعب المسلم العظيم.