د. محمد البشر
قرأت رحلة ابن بطوطة في صباي وفي كهولتي وفي شيخوختي، وآن الأوان أن أقرأها بتحقيق المرحوم بإذن الله الأستاذ عبد الهادي التازي، وقد عرفته وهو بين الخامسة والثمانين والخامسة والتسعين، وقد توفي رحمه الله قبل سنتين، وقبل وفاته بأشهر قليله كان يسافر إلى أقطار الدنيا، ومنها الصين البعيدة عن المغرب العربي، بعد المشرق عن المغرب، وكان يأكل أكل الشباب، ويلقي محاضراته، ويدوّن ملاحظاته وكأنه لم يبلغ الأربعين، توفي وهو حاضر الذِّهن متوقّد الذكاء، سريع البديهة، يحتفظ بكل ما حباه الله من العلم، ويلقي محاضراته ويجيب على أسئلة الحضور بكل يسر وسهوله، مع شيء من إلقاء بعض الطرف المقبولة.
وفي تحقيقه تدقيق وإضافة، ونقد لا يجرح، وربما كان يحتفظ برأيه في بعض المسائل، حتى لا يسخط أحد عليه، وهذا أمر ليس باليسير، وإن تجاوز إساءة بعض الناس له بحسن خلقه، فإنّ من المستحيل عليه، أو على غيره لجم ألسنة الحاسدين وكما قال الشاعر:
كل العدوات قد يرجى براءتها
الّا عداوة من عاداك عن حسد
فالحاسد لا شفى سقمه، إلاّ زوال نعمة المحسود، وهيهات هيهات أن يكون زوال النعم أو بعض منها بيد المخلوق، وإنما هي بيد الخالق العظيم، الذي لا يضر مع اسمه شيء في السموات ولا في الأرض، وربما يكون حسد الحاسد طريقاً لرفقة المحسود دون أن يعلم ولله في خلقه شؤون.
وفي رحلته إلى بلاد الشام ابتدأ بزيارة غزة، ومنها إلى مدينة الخليل، وذكر أن فيها مسجداً أنيق الصنعة، محكم العمل، بديع الحسن، سامي الارتفاع، مبني بالصخر المنحوت في أحد أركانه صخرة، يقال إن سليمان عليه السلام قد أمر الجن ببنائه، ويذكر المحقق أن هذا المسجد بني على أثر كنيسة شيدت في العصر الروماني القديم والله أعلم.
وزار بعد ذلك البحر الميت، وسمّاه بحيرة لوط، والبعض يرى أن الله بعد أن خسف بعصاة قوم لوط والعياذ بالله، أصبح مكانهم هذه البحيرة شديدة الملوحة، التي تصل ملوحتها إلى أكثر من خمسين إلى جزء بالمليون، ثم زار بعد ذلك بيت لحم موضع ميلاد عيسى عليه السلام، ويذكر أنه شاهد به أثر جذع النخلة، وهو بهذا يشير إلى تلك النخلة التي ورد ذكرها في القرآن، قال تعالى: {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}. ثم تابع مسيرته، حتى وصل إلى المدن التي تمثل سوريا في الوقت الحاضر، فوصف بعضها وصفاً بديعاً وأورد بعض الأشعار التي قيلت فيها. ومن تلك المدن حمص، وحماه، وحلب، ودمشق، وقد أطنب في وصف تلك المدن ماعدا حمص، أما ابن جبير الرحالة في رحلته فلم ترق له حمص وقال فيها قولاً لا يحسن ذكره.
ولعل شيئاً من أبيات ابن سعيد الشاعر القرناطي المعروف الذي زار الشام والعراق ومصر والمشهور بعلمه وشعره وطرافة قوله، يعطي ملمحاً من إعجابه بنواعيرها فقال:
وأشدوا لدى تلك النواعير شدوها
وأغْلُبُوها رقصاً، وأُشبهها غرفـاً
تئن وتُـذري دمعها فكأنها
تهيم بمرآها، وتسألها عطفـاً
يا لك يابن سعيد، ما أجمل وصفك وأبدع قولك، وأطيب لسانك، ولولا أنني قد قرأت ما سطرت في كتبك، وما قلته في شعرك لأبيك، وزهدك في المنصب رغبة في الراحة، والاستماع، لاسترسلت في الحديث عنك، وخرجت عن موضوع المقال.
أما حلب فقد قال عنها ابن بطوطة : هذه حلب كم أدخلت ملوكها في خبر كان، ونسخت ظرف الزمان بالمكان، أُنّثَ اسمها فتحلت بحلية الغوان، ودانيت بالعذر فيمن دان، وتجلت عروساً بعد سيف دولتها ابن حمدان، ويقول: هيهات سيهرم شبابها، ويعدم خطّابها، ويسرع فيها بعد حين خرابها.
آه ليتك ترى يابن بطوطة حالها الآن وقد هرم بفعل الحرب شبابها، وكثر لدمارها خطابها، وحل بها اليوم خرابها، فلم تعد النواعير يابن سعيد باقية، وها هي تنادي هلك عني سلطانيه، وما كان لها من ذنب إلاّ أن سلاطين اليوم غير سلاطين الأمس، فهي اليوم بين داعش والنظام، وبين آثار الدمار والحطام، تئن أنين أسد الغابة، من أسد السلطة والنشابة.
وأقول: مسكين ابن بطوطة، ومسكين يابن سعيد، ومثلكم ابن جبير، فلم تعد هي هي، لكن الأمل في الله كبير، والثقة فيه مطلقه، فلعلنا نرى بلادنا العربية، وبلاد العالم أجمع آمنة مطمئنة يعيش فيها الناس في حب وسلام ووئام، يسعدون بما حباهم الله من نعم الأرزاق الظاهرة، والباطنة، وشيء واحد فقط يمكن أن يحقق ذلك، هو العدل والسعي في الخير، ونزع الأحقاد، وسيادة المحبة.