د. محمد البشر
كم هو جميل أن نعيش هذه العشر العظيمة, التي حلف بها رب العالمين, كما يذكر بعض المفسرين, وكم هو رائع أن يكبر لله المرء ويذكر ربه, ويحمده على نعمائه, وكم هو رائع أن يتذكر الإنسان إخوانه الذين قدموا إلى مكة المكرمة لأداء مناسكهم, بعد أن تركوا المال والولد, وغادروا البلد, طامعين في عفو الله ورضوانه.
هذه العشر التي أذكر أن الناس كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فيها, وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يكبر في السوق والناس تكبر معه، والآن أصبح الناس يتمتمون بها، هذا لمن أعانه الله على التكبير. هذا من جانب, ومن جانب آخر فقد كثر الجدل واختلفت الاجتهادات في الأخذ من الشعر أو الأظافر فيها, فإن لكل أجره إن شاء الله بما اجتهد فيه وأخذ به، إن تحرى في ذلك موافقة الصواب, وذلك لمن عزم على أن يضحي.
مكة المكرمة قبلة المسلمين, ومنارة الإسلام, ومنبع النور, ومهبط الوحي, والبقعة التي ولد فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهي التي تقع بها الكعبة الشريفة, والمسجد الحرام, وجبل النور, وغار حراء, ومنى, ومزدلفة, وعرفات, فيالها من مكان خصه الله بميزة لم يضاهيها فيه تربة على الأرض.
حجاج بيت الله الحرام يقصدونها لقضاء الركن الخامس من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً, تلك الاستطاعة التي لا تنحصر في المال فقط بل وفي الصحة الجسدية، والحصول على التأشيرة, وغيرها، ومن حاول وحال دونه شيء, فقد نال بإذن الله أجراً عظيماً بمقدار نيته ونحسبه كذلك, والله أعلم. ونحسبهم أيضاً قد أدوا ما عليهم من حقوق مالية إزاء الآخرين قبل القيام بالحج.
فيما مضى من سالف الأزمان, كان الناس يحجون على ظهور الجمال, أو مراكب شراعيه, أو راجلين, وكان عدد من مسلمي شبه الجزيرة الهندية, يأتون إلى الحج, مشياً على الأقدام, إما لضعف الحال وقلة المال, وإما طلباً لمزيد من المثوبة ظناًَ منهم أن الحج على الأرجل خير منها على الدابة, ومنهم من يموت في الطريق أو آخرين يستوطنون بعض المناطق التي يمرون بها عند الرغبة في العودة إلى ديارهم, فعندما يطيب لهم المقام في بلد ما, وتستهويهم إما بطقسها، أو توفر الرزق بها, أو سماحة أهله, فإنهم لا يعودون إلى ديارهم, ويسميهم العامة في نجد وربما في البلاد الأخرى الدراويش, وهم رجال كرام صالحي النية, أما من كان يقدم إلى مكة المكرمة حاجاً فإنه في الغالب يأتي ضمن قوافل متتابعة لها طريق ثابت تعرفه, والقوافل تسلكه كل عام, وتنسق مع كل رأس بلد أو قبيلة أثناء المرور, طلباً لأمن القافلة, أما زادهم فهو ما خف حمله, كما أنهم يتزودون من كل بلد عند الحاجة, ولا شك أن بعضاً منهم يموت بسبب الإعياء, أو المرض, أو غير ذلك من الأسباب.
حجاج بيت الله الحرام في هذا العصر ينعمون ولله الحمد بكل سبل الراحة, والأمن, والطمأنينة, فهم يقصدون مكة المكرمة عبر وسائل النقل المتاحة والمعروفة الآن, كما أنهم عند وصولهم يحظون بالترحاب والخدمات الفائقة من أمن, ورخاء, وتوفر للماء, والغذاء, والمأوى, وحتى الكساء لمن طلبه, والناس من رسميين وغير رسميين يتسابقون لخدمتهم طالبين المثوبة من عند الله.
لقد سهلت الدروب والمسالك أثناء التنقل بين المشاعر, فشقت الإنفاق, وفتحت الطرق, وشيدت المباني, ونشر رجال الأمن والمرشدين في كل بقعة من بقاع مكة الطاهرة, وأصبح الحج بفضل الله أمراً ميسوراً لمن أستطاع إليه سبيلاً, ولكثرة الحجاج وسهولة أدائه, لم يعد الذاهب إلى الحج يسمى بعد عودته (حج) بينما في السابق, كان يسبق اسم كل من حج, كلمة حج, فيقال يا حج إسماعيل, أو يا حج عبدالقادر, ونحو ذلك, وهي الآن اختفت إلا في النذر اليسير, ولقد ظلت أسر تحمل اسم الحاج أو الحجي أو بالحاج, في كثير من البلاد, وهي موقع فخر واعتزاز لحاملي هذا الاسم, وحق لهم ذلك.
من كان لديهم الاستطاعة, وأدى هذا الركن العظيم فإن من العدل والإنصاف أن يترك المجال لغيره, فيسهل عليهم أمرهم لينال ثواب إتاحة الفرصة لأخيه المسلم بعد أن أدى فريضته, وقد كان للتنظيم الذي إقامته المملكة بعدم العودة إلى الحج قبل خمس سنوات, أثراً إيجابياً للسماح لمن لم يحظ بقضاء فريضته, فاستفاد عدد أكبر من المسلمين.
جعل الله مقاصدنا مقاصد خير, ووفق الحجيج في مسعاهم, وأثابهم الله الجزاء الأوفى.