د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
لا شك أن خدمة الحج والحجيج شرف لكل مسلم ولكل حكومة، ولذا فهي على رأس أولويات واهتمامات حكوماتنا المتعاقبة. ولم يمر ملك على المملكة لم يجعل رفادة الحجاج والمعتمرين من أولى اهتماماته. وصرفت الدولة وتصرف كل عام جزءاً كبيراً ومهماً من ميزانيتها وفوائضها المالية
على راحة ضيوف الرحمن وعلى مشاريع توسيع الأماكن المقدسة وتحسين الخدمات فيها وتطويرها وتزويدها بأحدث التقنيات. وهذا جهد يشهد به الجميع ولكن البعض وللأسف لا يلاحظه أو قد يتجاهله متعمداً، كالمتربص الذي لا يشكر ما يُقدم له ويبحث عن النواقص فقط، والمنعم الذي يُقارن ما يقدم له بالخدمات في الدول المتقدمة التي يذهب لها سائحاً فيرى ما يقدم له معتاداً، والسواد الأعظم ممن يفدون للحج والعمرة هم من الفقراء ومتوسطي التعليم الذين لا يحسنون التعامل مع ما يقدم لهم لتجاوز التقنيات لوعيهم، وهم في نهاية الأمر لا صوت لهم. وعلى كل فالمملكة لا تريد من خدماتها لزوار بيوت الله لا جزاءً ولا شكوراً وتنظر للأمر كواجب ديني لوجه الله ومرضاته.
مشكلتنا مع إدارة الحج ليست في أننا نقصر في أي شيء، بل في أننا نحاول المستحيل لتقديم كل شيء وعلى أكمل وجه وعوّدنا الحجاج على توقع ذلك منا. فنحن نسعى دائماً لتقديم ما هو أفضل بكثير من المطلوب منا. ولذا عوّدنا الحجاج دائماً بأن يطالبونا بتوفير كل الخدمات لهم في موسم قصير مكتظ حتى تلك التي يفتقدونها في بلدانهم، ليس ذلك فقط بل وتحمُّل كل المسئوليات عن أخطائهم. ولم يحصل في تاريخ الحج أن أشركنا الحاج أو طالبناه بأي مسئوليات في إنجاح الحج سوى الالتزام بالتعليمات من أجل سلامته. ولو قارنا الخدمات التي تقدم للحجيج في المملكة بأعدادهم المليونية الضخمة بما يقدم للحجاج في أماكن أخرى يحج لها آخرون بأعداد أقل للاحظنا البون الشاسع، ففي كربلاء مثلاً التي يؤمها الشيعة في مناسباتهم الدينية بعشرات الآلاف لا تفتقد الخدمات فقط، بل يُنظر لموت الحجاج على أنه قدر وأمر اعتيادي غير مستنكر ولا يتكلم عنه أحد، لأن السلطات المسئولة لم تعد قط بتحمُّل المسئولية بسلامتهم أو توفير الراحة لهم، ومثله الموت في التدافع في المناسبات الدينية في الهند وغيرها، وحتى في أوربا أحياناً في مناسبات الاحتفالات والألعاب الرياضية يموت المئات نتيجة التدافع، فإدارة الحشود أمر محفوف بالمخاطر دائماً، لكننا رفعنا التوقعات منا، وسلطنا الأضواء على الحج ربما أكثر من المطلوب اعتقاداً منا أن في ذلك إعلاء لشعيرة إسلامية أمام العالم وإعلاء للدين الإسلامي، فوضعنا أنفسنا تحت المجهر الإعلامي.
وللأسف فهناك دول تعتبر الحياة برمّتها، وليس المناسبات الدينية فقط جزءاً من الانتقام لمظلومية متأصلة في معتقدها، وبعض حجاجها يفدون ليس لأداء الشعيرة المقدسة، بل لإثارة المظلومية الإمامية التي يعتقدون بها في الأماكن المقدسة، ويعتبرون ذلك أَولى من مناسك الحج.. والمعضلة هنا ليس في حمايتهم فقط، بل في حماية الآخرين منهم. ووجودهم بهذا الشكل المهدد يتطلب عملاً كبيراً وتنظيمات خاصة تنطلق من عدم الثقة بما يمكن أن يقدموا عليه في أي لحظة، لأنهم يتهيّجون عاطفياً في وقت قصير، ويُشكّلون عادة خطراً على الحجاج الآخرين.
أمر محزن جداً أن يصر البعض على التركيز على حادثة واحدة فقط، حادثة واحدة قد يكون سببها بسيطاً وتتسبب في ضحايا كبيرة، ويتعامى عن رؤية جهود عشرات آلاف الشباب من مختلف القطاعات العسكرية، والأمنية، والطبية، والكشفية، والإعلامية وغيرها لتيسير أمور ضيوف الرحمن.. ورغم ذلك وفي المحصلة النهائية، تقبلت المملكة بكل رحابة صدر لوم اللائمين، وكأنما هو جزء من خدمتها للحجيج، وأمرَ خادم الحرمين بلجنة تحقيق وبمراجعة الإجراءات المتعلقة بتنظيم الحجاج، مع يقيني التام ويقين الكثير ممن لاحظوا تصرفات بعض المعتمرين والحجاج من قبل بأنه من المستحيل تنظيمهم، لأن الكثير منهم أتى من دول غير منظمة أصلاً ويفتقد أبسط مقومات الحياة العصرية بما فيهم بعض الحجاج الذين يفدون من دول إسلامية متطورة نسبياً، لأنهم يفدون من مناطق نائية ولا يختلفون كثيراً عن سابقيهم.. ولذا فمن الواضح أننا نحمّل نفسنا من المسئولية أكثر مما ينبغي، وعليه فيجدر بنا في أي تنظيم جديد أن نشارك الحاج نفسه قبل وصوله جزءاً من المسئولية عن سلامته وسلامة الآخرين، لا لنكلفه ونشق عليه ولكن من أجل توعيته وضمان انضباطه واتباعه للتعليمات.
ولذا، فأنا أضم صوتي لصوت من يطالبون بتنظيمات أشد صرامة للحج يكون من ضمنها: الاشتراط على الدول ضمان تصرفات حجاجها قبل منحهم تصاريح الحج، وتحملها مسبقاً مخاطر عدم التزامهم بالأنظمة وتعريف حجاجها بشكل كامل بذلك؛ إعداد وتعميم حقيبة تثقيفية إليكترونية بكافة لغات الحجيج تعدها المملكة عن مناسك الحج ووسائل السلامة بكافة أوجهها يكون من ضمنها خريطة للمشاعر وخرائط للتفويج المخصصة له يشترط على الحاج دراستها والتعهد بالالتزام بها قبل منحه التصريح.. وتتضمن الحقيبة أفلاماً ومواد توعوية عما حدث في السابق نتيجة التساهل بالتعليمات لتوعيته بعواقب مخالفة التعليمات؛ عدم منح تصاريح حج للمرضى ومن يحتاجون رعاية خاصة تضر باستطاعتهم أداء المناسك وتؤثر على أداء الآخرين، فشرط الحج هو الاستطاعة، وقد تنظر الدولة في مطالبة الحاج بالحصول على تأمين صحي قبل وفوده للحج أسوة بالدول الأخرى التي يدخلها الزوار بشكل دوري؛ وأخيراً قد تنظر الدولة فعلياً وجدياً في تقليص عدد تصاريح الحج بنسبة كبيرة وتحصرها في عدد يمكن تنظيمه والسيطرة عليه بشكل كامل، وفي حال ثبوت مخالفة حجاج من دول معينة لتعاليم السلامة بما يتسبب بضرر للآخرين تقلص تصاريح تلك الدول في الأعوام التي تليها بما يتناسب وحجم الضرر الذي تسببوا به.
قد يرى البعض مثل هذه الإجراءات غير مقبولة، وقد يظهر في الدول الأخرى من ينتقدها ولكنها ستسلط الضوء على المشاكل الحقيقية للحج التي لا دخل للسلطات السعودية فيها والتي تُشكّل عوقاً وتشويهاً وكلفة إضافية بشرية ومادية لتنظيم الحج.. فكيف مثلاً يحج العاجز غير القادر على المشي أو الوقوف، أو مريض بمرض من الأمراض المزمنة، أو المتقدم كثيراً في السن، فهذه الفئات لا تنطبق عليها شرط الاستطاعة.. فالجهة المستضيفة لا يمكن أن تستمر في تقديم خدمات طبية خاصة جداً لمن يحتاجون عمليات قلب مفتوح أو قسطرة أو غيرها من العمليات حتى لا يستغل البعض الحج كنوع من اللجوء الصحي.. والدولة وإن استطاعت توفير هذه الخدمات في أوقات الوفرة وعوّدت الحجيج عليها فقد لا تستطيع أن تفي بها في سنوات أخرى، ولكن الحجاج وبعض الدول ستستمر بالمطالبة بها.
تنظيمات كهذه تشرك الحجاج ودولهم في مسئولية سلامة الحج ونجاح تنظيمه، وستجعلهم منخرطين بشكل أكبر في مشاكله ليس على الأقل أن يعذروا الآخرين عندما تحدث أخطاء يتسبب بها مواطنيهم.. فالحج مشروط بالاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. بذلنا أكثر مما في وسعنا وعطّلنا الكثير من خدمات شعبنا وقدّمناها لضيوف الرحمن ولم نسلم من النقد، فقد أزفَ الوقت الذي يتحمّل فيه الآخرون مسئوليتهم، لا سيما وأنهم يطالبون بالمشاركة.