أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: صدر كتابُ (الْـمُخْتَصَرُ في التفسير / مُخْتَصَرَات مُحَرَّرَةٌ ج1).. صدر عن مركزِ تفسيرٍ للدراسات القرآنية برقم 13، وقدَّم له معالي الدكتور صالح بن عبدالله ابن حُمَيْد بورقةٍ كامِلة، وطُبِع الكتابُ على الحجم الكبير جدّْاً، وصدر الجزء مِن (606) صفحة.. أي (303) ورقة، وصدرت الطبعة الأولى عام 1435 هـ، وجاء في تفسير
الآية ص 103: ((ولعناهم بقولهم مفتخرين كذباً: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ}، وما قتلوه كما ادَّعَوا، وما صلبوه؛ ولكن قتلوا رجلاً ألقى الله شَبَهَ عيسى عليه السلام وما صلبوه؛ فظنوا أنَّ المقتول عيسى عليه السلام .. والذين ادعوا قتله من اليهود، والذين أسلموه إليهم من النصارى: كلاهما في حيرة من أمره وشك؛ فليس لهم به علم، وإنما يتبعون الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وما قتلوا عيسى، وما صلبوه قطعاً؛ بل نجَّاه الله من مكرهم، ورفعه الله بجسمه وروحه إليه، وكان الله عزيزاً في ملكه، لا يغالبه أحد، حكيماً في تدبيره وقضائه وشرعه، وما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بعيسى عليه السلام بعد نزوله آخر الزمان وقبل موته، ويوم القيامة يكون عيسى عليه السلام شاهداً على أعمالهم (ما يوافق الشرع منها، وما يخالف)؛ فبسبب ظلم اليهود حَرَّمْنا عليهم بعض المآكل الطيبة التي كانت حلالاً لهم، فحرَّمنا عليهم كلَّ ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، وبسبب صدِّهم أنفسَهم وصدِّهم غيرَهم عن سبيل الله، حتى صار الصدُّ عن الخير سجيةً لهم؛ وبسبب تعاملهم بالربا بعد أن نهاهم الله عن تناوله، وبسبب أخذهم أموال الناس بغير حقٍّ شرعي.. وأعددنا للكافرين منهم عذاباً موجعاً.. ولما ذكر مثالبَ أهل الكتاب ذكر الطيبين منهم فقال: لكن التائبون المتمكنون في العلم من اليهود المؤمنون: يُصَدِّقُون بما أنزله الله عليك أيها الرسول من القرآن، ويُصَدِّقُون بما أنزل من الكتب كالتوراة والإنجيل على مَن قبلك من الرسل، ويقيمون الصلاة، ويعطون زكاة أموالهم، ويصدِّقون بالله إلهاً واحداً لا شريك له، ويصدقون بيوم القيامة.. أولئك المتصَّفون بهذه الصفات سنعطيهم ثواباً عظيماً)).
قال أبو عبدالرحمن: هذا أَوْضَحُ وأصْوَبُ ما قرأته في تفسير الآية الكريمة، وقد سبق لي في هذه الجريدة منذ أكثرَ من عام قَبْلَ صدور هذا الجزء: أنْ نشرتُ بحثاً طويلاً مُـحَقَّقاً عن تفسير الآية، ومناقشةِ أوهامِ جمهور الْـمُفَسِّرين؛ ولهذا فَسَأُناقِشُ الأوهامَ باستيعاب أكثر بحول الله وقوته، والآية الكريمة هي قوله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (155-159) سورة النساء.. وجاء في كتابِ (زُبْدَةُ التفسيرِ) ص 103 ما يلي: (({وَبِكُفْرِهِمْ} بالمسيح، {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً} (هو رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين)، {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله}.. لقد كذبوا بأنهم قتلوه، وافتخروا بقتله؛ ولعلهم إنما ذكروه بالرسالة استهزاء؛ لأنهم ينكرونها، ولا يعترفون بأنه رسولُ حقٍّ مِن عند الله، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ..يكذبهم الله في ادِّعائهم أنهم قتلوا عيسى وصلبوه [وهي أعظم أكذوبة في التاريخ].. {ولكن شُبِّهَ لَـهُمْ}..أي ألقى شبهه على غيره، وقتلوا الذي قتلوه يظنونه عيسى.. وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ}.. أي في شأن عيسى؛ فقال بعضهم: قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء: ما قتلناه.. وقيل: إنَّ الاختلاف بينهم: هو أن النسطورية من النصارى قالوا: صُلِبْ عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته.. وقالت المِلْكانية: وقع القتل والصلب على المسيح بكماله (ناسوته ولاهوته).. قاتلهم الله أنى يؤفكون.. {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ}فهم متردِّدون مرتابون في شكِّهم يعمهون، وفي جهلهم يتحيرون.. {مَا لَـهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن}.. أي لكنهم يتبعون الظن؛ فهم مضطربون مترددون .. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً}.. أي قتلاً يقيناً.. أي ليس هذا عندهم بيقين؛ {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ}.. وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران (الآية 55).. {وَإِنْ مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.. أي لا يموت يهودِيٌّ، أو نصرانيٌّ إلا وقد آمن بالمسيح.. وقيل المعنى: أنه لا يموت عيسى [الذي هو الآن حيٌّ في السماء] حتى يؤمن به كلُّ كتابيٍّ في عصره.. وقيل: المعنى سَيُدْرِك أناسٌ من أهل الكتاب عيسى [عليه السلام] حين يُبْعَث وسيؤمنون به؛ والمراد الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة.. {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ} عيسى عليه السلامُ على أهل الكتاب {شَهِيداً} يشهد على اليهود بالتكذيب له، وعلى النصارى بالغلوِّ فيه؛ حتى قالوا: هو ابن الله .. ويَشْهَدُ على من آمن به بحقٍّ.
قال أبو عبدالرحمن: هذا كلام نفيس صائب سِوى هذه الجملة: ((أي قتلاً يقيناً.. أي ليس هذا عندهم بيقين))؛ فهذه الجملةُ صَدَىً لأخطاء جمهور الْـمُفَسِّرين؛ لأن الْـمُرادَ ليس هو أنَّ القتلَ عندهم كان يقيناً؛ والْـمانِعُ مِن هذا التفسير أنَّ مُتَعَمِّدَ الْـقَتْلِ قد يقتل ضحيتَّه ولا يكون المتعمِّدُ على يقين مِن أنه قَتَلَه، بل عنده احْتمالٌ بأنَّه نجا مِن ضربةِ السيف أو الْقوْسِ أو أيِّ سلاح.. بل مُرادُ الله جَلَّ جلالَه الصريحُ الصحيح: أنهم حاولوا قَتْلَ عيسى بن مريمَ عليهما السلامِ مُتَعَمِّدين ذلك؛ فَتَيَقَّنوا أنهم قتلوه؛ لأنهم قتلوا فِعْلاً شبيهاً به؛ فنفَى الله صلْبَهم إياه وقتْلَهم إياه وإن حاولوا ذلك.. نفى الله ذلك نفياً يقيناً كما هو في الواقع؛ فَلْتكونوا أيها الْـمُكَلَّفُوْنَ على يقين من ذلك، ولا تلْتَفِتوا إلى قوْلِ يهودَ مِن قتلةِ الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامُه وبركاته، وعلى قَتَلَةِ الأنبياء لعائنُ الله تترى.. وإليكم جَوْلَةً مع أوهام جمهور الْـمُفَسِّرين، وسأتناول في هذه الحلقة جملةً يسيرة.. قال أحمدُ بنُ يوسفَ الحلبيُّ السَّمِيْنُ [ - 756 هـ] رحمه الله تعالى في تفسيره الرائع جدّْاً (الدُّرُّ الْـمَصُوْنُ) 4-147- 148 ((قوله {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} الضميرُ في (قتلوه) فيه أقوال أظهرها: أنه لعيسى؛ وعليه جمهور المفسرين.. والثاني: - وبه قال ابن قتيبة والفرَّاء -: أنه يعودُ على العِلْم.. أي ما قتلوا العلمَ يقيناً على حد قولهم: (قتلت [ أيْ قولِ العرب] العلمَ والرأي يقينا)، و(قتلته علما)؛ ووجه المجاز فيه: أن القتل للشيءِ يكون عن قهرٍ واستعلاءٍ؛ فكأنه قيل: وما كان علمهم علماً أُحيط به، إنما كان عن ظنٍّ وتخمين.. الثالث: -وبه قال ابن عباس[رضي الله عنهما]، والسُّدِّي، وطائفة كبيرة- أنه يعود للظن.. تقول: (قتلت هذا الأمر علماً ويقيناً).. أي تحققت؛ فكأنَّه قيل: وما صَحَّ ظنُّهم عندهم، وما تحققوه يقيناً، ولا قطعوا الظن باليقين).
قال أبو عبدالرحمن: هذا ما تسمح به مسافة هذه الحلقة، والصواب: أنَّ الضميرَ عائدٌ إلى الظَّنِّ .. أيَّ أنَّهم أنفسَهم ما قطعوا الشك باليقين، والواقعُ أنهم لم يقتلوه؛ وهذا هو ما نَفاهُ الله يقيناً، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى مع بقيةِ أوهامِ جمهورِ المُفسِّرين حول هذه الآية الكريمة، والله المستعان.