أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
عودةً إلى أخي الدكتور الغذَّاميِّ حفظه الله تعالى: أَذْكُرُ قَوْلَه: (فَلِكَيْ يكونَ وجوداً لا بدَّ أنْ يكون اسماً).
قال أبو عبدالرحمن هذا شرطٌ لغير مشروط؛ لأنَّ الناس يُسَمُّون ما عرفوه، وقد تَتَقَدَّمُ المعرفة ويتأَخَّر الاسم؛ إذن الاسم تحديدٌ للمعرفة، وليس شرطاً للوجود.. وكم فوق الجاذبية مما لم يعرفه البشر، ولا ينفي وجودَه بعد العِلْمِ به: أنْ ليستْ له تسميةٌ بَعْدُ، وكم من حيوانات ونباتات في أوربا وأفريقيا والبحار لم تُسَمِّها اللُّغَةُ وهي موجودة على الرَّغْمِ مِن جهلِ القاموس.. إن مِن النجومِ نَجْمُ زُحَلٍ (ميماس)، و(ديون)؛ وإنما سُمِّيتْ حديثاً بعد العلم بها؛ فهل كانت غيرَ موجودةٍ قبل التسمية؛ فهذه ثانية.. والثالثة قولُه : (ولكي يكون اسماً لا بد أنْ يكون عربياً).
قال أبو عبدالرحمن : مَن قال ذلك؟!.. إذن (تاتشر) لكي تكون موجودةً: لا بُدَّ أنْ تكون عَرَبِيَّةً!!.. ثُمَّ لماذا لا يكون (غاندي) ذا وجود وهو هِنْدِي؟!.
قال أبو عبدالرحمن : ويعرض للاسم من الزوال والاستبدال ما يعرض لِلَّقَبِ؛ فلا وجه للتفريق؛ فهذه ثالثة ورابعة.. والخامسة دعوى أنَّ الخبر يمنحُ المبتدأَ وجوداً !!.
قال أبو عبدالرحمن : إنَّ المبتدأَ محمولٌ عليه؛فلا يتوقَّفُ وجودُه على المحمولِ (الخبر)؛ ولهذا يُخْبَرُ عنه بالسَّلْبِ؛ فيقال : (الطير غَيْرُ قنَّاصٍ)؛ فيكون الخبرُ نفيَ نوعِ وجودٍ؛ وإنما الخبرُ زيادةُ علمٍ وحسب.. والسادسة دعوى أن المبتدأَ لا قيمةَ له بلا خبرٍ.
قال أبو عبدالرحمن : من القيم الوجودُ والكيفيةُ، ولا يكون عند الْـمُخْبِرِ عِلْمٌ بهما أو بأحدهما؛ فتبقى قيمةُ الوجود والكيفيةِ على الرُّغْمِ مِن جِهْل الْـمُخْبِرِ؛ والواقع أنه لا قيمةَ لمحمولٍ دون محمولٍ عليه.. والسابعة : أنه حفظه الله جعل (أنا) جزءاً من (عربيِّ)؛ بدليل أنَّ (عربيٌّ) غيرُ معرَّفَةٍ بـ(الْ)؛ فما تقولون حفظكم الله لو غيَّرْنا الخبرَ هكذا : (أنا نشيط - وهو نظيف)؛ هل تكون (أنا) جزءاً من نشيطٍ؛ لأن النشيطَ لم تُعَرَّف بـ(الْ)، وهل يكون (هو) جزءاً من نظيفٍ؛ لأنَّ نظيفاً لم تُعَرَّفْ بـ(الْ) ؟؟؟.
قال أبوْ عبدالرحمن : إنما البعضية من دلالةِ ياء النسب في (عربيٌّ)؛ لأن المنسوبَ بعضٌ من المنسوبِ إليه؛ فلما وُصِفَ (أنا) بـ(عربيٌّ) عُلِمَ أنَّ صاحبَ (أنا) جزءٌ من العروبة حقيقةً أو ادِّعاء.. وسألتُ الأستاذ الْغْذَّامي مكاتبةً في هذه الجريدة منذ سنوات: (هل معرفة الأبجدية العادية من مواضعة الكلام تعني بالضرورة الكشفَ عن قيمته الفنية؟.. أيْ هل معرفتي بدلائل الفاعل و(الْ)، وياء النسبِ تمنحني الإحساس الأدبي!!.. إذن كل مُسْتَعْمِلٍ للغةٍ قوميةٍ أديبٌ)؟!.
قال أبو عبدالرحمن : وقصيدة (سجل أنا عربي) موضوعُها الالتحام بالهمِّ العربي؛ لأنها كلمة فِدائيٍّ ضد إسرائيل؛ ولكنها فِكْراً أدبياً منفصلةٌ عن التاريخ العربي، وليست فَنِّياً بِدُرَّةٍ في سِمْطِ الحداثةِ، بل هي كلام عادي؛ ومع عاديته فهو مُزْرٍ بالانتماءِ العربيِّ.. ولقد كتبت عن هذه القصيدة بشيءٍ من التفصيل مُبَيِّناً أنَّ من هويته (عربي يحرث بلا لقب): متاحةٌ له الفرصة بأنْ يحرث في (شيكاغو)، وبأنْ يحملَ أيَّ جنسية خَواجِيَّةٍ.. وبيَّنْتُ أن هُوِيَّةَ العربيِّ لا ترتبط بالحرث؛ وإنما العربي صاحبُ لَقَبٍ؛ ليكون في أعلى درجةٍ من العروبة، وليكون صاحبَ رسالة، ووارثَ حقٍّ تاريخي.. إنَّه يظل فاتحاً، ولا يقعد حارثاً.. وتلقيتُ رسالة غاضبة من بعض أبناء البلاد العربية الشقيقة يوصيني بأنْ أَلْهُوَ بمشجَّر القبيلة؛ وكان يَحْسِبُنِيْ من أصحاب المشجَّرات، وراعني منطقة الأيدلوجيُّ؛ إذْ ورد بهذا النص: «ابحث في التاريخ، ولقد تجد من يُحِبُّ قريتَه أكثرَ من طِفْلِه، ويحب حماَره أكثرَ من زوجه»؟؟.. راعني هذا المنطق الشُّوفِيني مع الغياب عن الْهُوِيَّةِ العربية التي تُضَحِّي بالتراب والحمار والزوج في سبيل إسعادِ البشرية بالدعوةِ إلى الله، ومَهْرِ ما أمكن من رِقاع المعمورة بطابَعَ الإسلام؛ ليكون إرثاً عربياً.
قال أبو عبدالرحمن : ولا فخر لقائل: (سجل أنا عربي)، ولا خوف من عروبتِه ما لم يكن لأمته ميزةٌ وتاريخٌ وحقٌّ.. ثم وجدتُ مقالة في جرية الشرق الأوسط لبعض أبناء البلاد الشقيقة تلوم نقدي للقصيدة؛ فَسَحَبْتُ خَيْطَ النقاش حتى لا يُحْسَبَ نقدي المتجرِّدُ هجاءً لأدب المقاومة وهو عزيز على كل عربي.. وقلتُ للدكتور الغذَّامِيِّ بعد هذا الشَّجَنِ : «أَدْرِكْ أَحْيَرَ مِنْ ضَبٍّ، وأشْوَقَ مِن صَبٍّ، ولك حبي وتقديري.
قال أبو عبد الرحمن : ورأيتُ جانباً ذكره الدكتور (نذير العظمة)؛ وهو ضياع ملامِح الشعراء المتميِّزة في المنهج ذي الرؤيا المركَّبة، وبمناسبةِ هذا الْـمَنْهَج وما يُماثِلُه مِـمَّا كُتب عن الغذَامي : رأيتُ قائلاً يقول : (إن للغذامي منهجاً يفتح أبواب النقص والانحراف عنه؟؟!.. قرأتُ التعريف بذلك المنهج؛ فوجدت الغذامي مظلوماً؛ لأنه مُتَّهم بريْئٌ، بل العَتْبُ على الغذامي لقصوره عن ذلك المنهج المدَّعَى!!.. ولا أدري هل تلك الدعوى تراجَعٌ إلى المجاملة، أم أنَّه من التحاكي بما لا يملك الحاكي وسائلَ معرفتِه؟!.. وما عهدتُ قطُّ أنَّ بعض التراثيين ذوو تبصُّر بمنهجِ الغذاميِ، أوْ الالْتِذاذ به عن معرفةٍ يُتوَقَّعُ منها؛ (لأجل ذلك)أنْ يكونَ مِثْلُ هذا الثناءِ حَقّْاً لو لم يكن الثناءُ مُضَلَّلاً!!.. وأرجو الله أن يُعِينَ الدكتور الغذامي؛ ليثبت لعشاق النص الإبداعي، والتنظير النقدي: أنَّ منهجه مميِّزٌ لعاديِّ القول من فَنِّية، وأنه مُظْهِرٌ دلالةً لا دعوى فيها ولا هذر.. وقصارى القول : أن موهبة الغذامي وقراآتِه : أكبرُ وأوعبُ من هذا المنهج النقدي الفضولي الذي حصر نفسَه فيه.. وإذا حُبِسَتْ الموهبة بهذه الحرية السلوكية عادت ضموراً وبلادةً، كما أنَّ النقدَ في حقيقتِه تذوُّقٌ (وأُلِحُّ على كلمة تذوُّق) مِنْ ذي حِسٍّ جمالي مرهف، وثقافةٌ واسعة، وموهبةٍ فكرية ذات لَـمَّاحِيةٍ، وحِجاج عادل.
قال أبو عبدالرحمن: مادَّةُ (غَذَمَ) بالغين الْـمُعْجَمَةِ، والذال الْـمُعْجَمَة، والميم: لها معانٍ كثيرةٌ سأذكرها بعد قليل إنْ شاء الله تعالى؛ و(الْـغَذَّامِيُّ) بياء النسبِ صيغَةٌ اكْتَسَبَتْ بلوغَ الغايةِ في الْـغَذْمِ؛ وأما معاني (الْـغَذْمِ) فكما يلي :
1 - الأَكْلُ بِجَفَاءٍ وشِدَّةِ نَهَمٍ؛ وبضمِّ الْـغَينِ فهي اللبن الكثير.. قال الشاعِرُ عن حَلُوبتِه:
قَدْ تَرَكَتُ فَصِيلَها مُكَرَّما
مِـمَّا غَذَتْهُ غُذَمَاً فَغُذَما
وإذا اِمْتَكَّ الْـحُوارُ ما في ضَرْعِ أُمِّه : قيل غَذَمَه، واغْتَذَمَه.. وفي معنى الامْتِكاكِ الشَّفْطُ عند العامَّة، والَّلهْفُ في عامِيَّةِ مِصْرَ؛ فأحَدُهُمْ يَنْفَخُ في راحَتِه وهو يَنْطِقُ بكلمةِ (يَلْهَفُهُ)؛ فيكون لها صفيرٌ يُصَوِّرُ أوْضَحَ تصويرٍ صِفَةَ الَّلهْفِ.. ولا أريد التَّوَسُّعَ بالمترادفاتِ العامِيَّةِ وغيرِ العاميةِ؛ كي لا أَحِيْدَ عن معاني الْـغَذْمِ؛ وتلك الْـمُترادفات مُفَرَّقةٌ في كتابَيْ أبي عُبيْدٍ القاسمِ بنِ سلَّام عن الغريبِ الْـمُصَنَّفِ في اللغة، وعن الغريبِ في الحديث الشريفِ مِثْلُ الَّلسْدِ.. وكالْـمَكِّ الثلاثية؛ فهي الأصْلُ لمادَّةِ الامْتكاكِ.
قال أبو عبدالرحمن : سَأَسْتَلُّ إنْ شاء الله تعالى الدكتورَ الْغَذَّامِيَّ مِن مَعْنى (الأكْلَ بجفاءٍ وشِدَّةِ نهمٍ) كما تُسْتَلُّ الشَّعْرَةُ من العجينة.
2 -والْـغَذْمُ نَباتٌ.. قال القطاميُّ:
كأنَّها بَيْضَةٌ غَرَّاءُ خُدَّ لها
في عَثْعَثٍ يُنْبِتُ الحَوْذَانَ والْـغَذَمَا
وهكذا (الْـغَذِيمةُ على وزْنِ سَفينةٍ؛ وهي الأرض تُنْبِتُ الْـحَوْذَانَ).. يُقالُ : حَلَّوُا في غَذِيْمَةٍ مُنْكَرَة [أيْ أنَّ الحوذانَ غَطَّى وَجْهَ الأرضِ؛ هذا هو وَجْهُ النَّكارَةِ].
3 - والْـغَذِيْمَةُ طُوْلُ الباعِ ورحابَةُ الصدر.. يُقال : أَبْقِ في غَذِيْمَتِهَ ما شئتَ.. أيْ لَنْ يَضِيَرهُ ذلك؛ لطولِ باعه، ورحابةِ صَدرِه.
4 - وبئرٌ غذيمةٌ، وذاتُ غَذِيمةٍ.. أي بِئْرٌ واسِعَةٌ، وذاتُ ماءٍ كثير.
5 - والْـغَذْمَةُ الْـكَلِمَةُ.. أي لم أسْمَعْ كلمةً ذاتَ دلالةٍ واسِعَةٍ.
6 ـ والْـغُذْمَةُ بضم الغينِ الْـمُعْجَمَةِ غُبْرَةٌ وكُدْرَةٌ، والْـغُثْمَةُ بالثَّاءِ ذاتُ النُّقَطِ الثلاث مِن فوق بمعنى الْـغُذْمَةِ بالذال المُعْجمةِ؛ وهو أَغْذَمُ أَكْدَرُ أغْبَرُ.
7 - والْـغَذِيْمَة قال عنها (شَمِرٌ) : كلُّ كَلإٍ، وكلُّ شيىءٍ يركب بعضه بعضاً.
8 - والْـغَذِيْمَةُ : بَقْلَةٌ تَنْبُتُ بَعْدَ مَسِيْرِ الناس مِن الدار.
9 - وقال الأصمعيُّ كما في روايةِ أبي عُبَيْدٍ القاسمِ بنِ سَلَّامٍ : (الْـغَذْمُ الأكْلُ بجفاءٍ وشِدَّةِ نَـهَمٍ، وقد غَذِمتُ [بكسر الذال المعجمة، وفتح الغين المعجمة قبلها، وضمِّ التاء.. تاءِ المتكلِّم].. أَغْذَمُ [بفتح الذال المعجمة وضم الميم] غَذْماً [بفتح الغين المعجمة، وسكون الذال المعجمة].. وذكر أبو عبيد : أنَّ الرياشيَّ أنشده:
تَغَذَّمْنَ في جانِبَيْهِ الْـخَبيْرَ
[م م] لَـمَّا وَهَى مُزْنُهُ واسْتُبِيْحا
ولعليِّ بن اسماعيلَ بن سِيْدِه [ ـ 458 ] رحمه الله تعالى في كتابه (المُحْكَمُ والْـمُحِيْطُ الأعْظمُ)في اللغة كلامٌ نفيس.. قال 6-57 - 58: ((تَغَذْرَمَ الشَّيْءَ أكله، و تَغَذْرَمَها حلف بهَا.. (يَعْنِي الْيَمين؛ فاضمرها لمَكَان الْعلم بهَا)، والتَّغَذْرُم الْـحَلِف.. كل ذَلِك عَن ثَعْلَب، وغَذْرَمَ الشَّيْء بَاعه جُزَافا، وَكَيْلٌ غُذَارِمٌ، وَمَاء غُذَارِمٌ كثيرٌ.. والمُغَذْمِرُ الَّذِي يركب الْأُمُور؛ فَيَأْخُذ من هَذَا وَيُعْطِي هَذَا، ويدع لهَذَا من حَقِّه؛ويكون ذَلِك فِي الْكَلَام أَيْضاً إِذا كَانَ يُـخَلِّط فِي كَلَامه.. يُقَال:(إِنَّه لذُو غذامير).. كَذَا حُكِى، وَنَظِيره (الخناسير)؛ وَهُوَ الْهَلَاك.. كِلَاهُمَا لَا يُعرف لَهُ وَاحِد.. وَقيل: المُغَذْمِرُ: الَّذِي يَهب الْحُقُوق لأَهْلهَا..وَقيل:(هُوَ الَّذِي يتَحَمَّل على نَفسه فِي مَاله)، وَقيل: (هُوَ الَّذِي يحكم على قومه مَا شَاءَ فَلَا يُرد حُكمه وَلَا يُعْصى)، وغِذمِير: مُشْتَقٌّ من أحد هَذِه الْأَشْيَاء الْـمُتَقَدِّمَة، (والغَذْمَرَةُ: الصَّخَب واختلاط الْكَلَام)، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: (هُوَ أَن يحمل بعض كَلَامه على بعض)، وتَغَذْمر السَّبُعُ إِذا صَاح، وَسُمِعَتْ غَذاميرَ (أَي صَوْتاً).. يكون ذَلِك للسبُع وَالْـحَادِي، وغَذْمرَ الرجُل كَلَامَه أخفاه فاخِراً أَو مُوْعِداً، وَأتْبَع بعضَه بَعْضاً، وَغَدْمَرَ [بالدال الْـمُهْمَلَةِ] الشَّيْئَ: بَاعه جِزَافاً كغذرمه[بالذال الْـمُعْجَمَةِ]، والغَمَيْذر: حَسَنُ الشَّبَاب، والغَمَيْذَرُ المُتنعِّمُ، وَقيل: (المُمتلئُ سِمَناً كالغمَيْدَر)، وَقد روَى ابْن الْأَعرَابِي مَا تقدم من قَول الشَّاعِر:
لله دَرُّ أَبِيك رُبَّ غَمَيْذَرٍ
بِالذَّالِ وَالدَّال مَعًا، وفسرهما تَفْسِيراً وَاحِداً، فَقَالَ: (هُوَ الممتلئُ سِمَناً)، وَقَالَ ثَعْلَب فِي قَوْله:
لَا يَبْعُدَنْ عَهْدُ الشَّبَاب الأنْضَرِ
والخَبط فِي غَيْسانهِ الغَمَيْذَرِ
كَانَ ابْن الْأَعرَابِي قَالَ مرّة: (الغميذر، بِالذَّالِ، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ)، وتَلَغْذَمَ الرَّجلُ: اشْتَدَّ أكْلُه)).
قال أبو عبدالرحمن : تَلَخَّصَ مِن كلِّ ذلك أنَّ الأكثرَ والأظْهَرَ في المادَّةِ السَّعَةُ في الأرضِ ذات النباتِ، واشْتُقَّ من ذلك التَّجَوُّزُ بطول الباع ورحابة الصَّدْرِ، وأمَّا السِّمَنُ الذي يكونُ مِن الأكْلِ بنهمٍ؛ فما عهدتُ الْغَذَّاميَّ أكولاً، ولعله يمشي يومياً عَشَرَةَ آلافِ خُطْوَةٍ أوْ بَعْضَها يَقْسِمُها قبل أذانِ الْـمَغرِب، وبعد صلاة الفجرِ بابتداءِ شُرُوقِ الشمسِ قَبْلَ أن يُقْعِدَهُ ما أقعدني؛ فإنَّ العُمْرَ لا يَتَجَدَّدُ.. وإنْ كان الْغَذَّامِيُّ نديَّ الكفِّ : فإنَّ مِن معاني المادَّةِ وَصْفَ الرَّجُلِ بأنَّه يَدَعُ شيئاً مِن حَقِّهِ هِبَةً لغيره، والله المستعان.
قال أبو عبدالرحمن : الناقدُ صِنْوُ الشاعر؛ فكما يكون الشاعر موهوباً في إبداع الجمال الفني : يكون الناقد موهوباً في الإحساس به إن عجز عن إبداعه.. وكما تكون الثقافةُ العريضةُ شرْطاً لسموق مستوى الشاعر: يكون الناقد عريضَ الثقافة؛ ليأخذ تنظيرَه وينظِّمه عن أصول علمية وجمالية.. بل تفوُّقُه على الشاعر ثقافةً مطلبٌ ضروري؛ فيحيطُ بنماذجِ الأنماط الإبداعية؛ لِيُبْعِدَ الشاعرَ وأبناءَ جيلِه من النمط الواحد، أو النمط التاريخي الراكد.. وتكون القصيدة كاملة إذا استجاب لها الجمهور المنتخَبُ في ثقافته وحسِّه الفني على أنْ تؤدِّيَ غرضها مضموناً.. وغاية النقد في الدرجة الأولى إبراز القدرة الجماليةُ التي تخلب المتلقِّي؛ لأنَّ غرض كل الفنون الجمالية - ولا سيما الشعرُ؛ لأنه أكثرُها قابيلةً للتعبير وأثراها؛ ولأنَّه الأَلَقُ الجمالي -: أنْ يستحوذ على المتلقي بأرْقَى وأسمى وأجمل وسائل الأداء.. هذه مهمة النقد الفني لا مهمة له غيره، ودعك من جفاء الإحصاءات والمعادلات الرياضية المنتجة وغير المنتجة، وخزعبلات البنيوية والتفكيك مع ما في ذلك من تمعلمٍ وادعاءٍ وفضولٍ.. وتبقى مهمة المفكِّر غير الناقد الفني محاسبةَ الشاعر بقيمتي الحق والخير : هل وظَّف الجمال لمسؤولية الالتزام، أم أنه تسويل وتزيين وإغواء وتضليل؟!.. ولا يزال أدبنا المحلي يصل إلى الناقد المُحابي والمرتزق زائراً لبلادنا مزوِّراً، وليس لنا أدب محلي ذو شخصية متميزة؛ مِن حيث يكون مدرسةً فكريةً أو مَعْلماً جمالياً طرياً يتعلق به أدباء العالَـم.. وغايةُ ما عندنا قِلَّة المبدعين الذين لم يتبلور أدبهم بعدُ؛ وهو عصبيةٌ، وجموعُ الدهماء تُغَبِّر عليهم.. وأما أنْ تسحقهم فلن تستطيع ذلك، وعندنا أدب تراثيٌّ لعموم طلاب المدارس والجامعات وبعض أساتذة الجامعة الذين هم منذ النشأة العلمية وإلى هذه اللحظة: لم يخرجوا عن النموذج الجاهز الذي يُقْرأُ نصاً ونقداً منذ ألف عام وأكثر.. وعندنا شعر خطابي يقوم على اليافطة والشعار : لن نركع إلا لله.. نحن أحفاد خالد وسعد.. اِذبحوهم واسلخوهم.. ولا تجد في هذا الهدير العادي المستهلَك مذاقاً مِن جمال، أو قبَساً من فكر، أو شُمامة من عطر.
وفي المسائية [عدد 1230 في 18-4-1406 هـ] قرأتُ رسالة مُـحِبٍ موجَّهة إليَّ حول اشتقاق البعْرة ؟.. ولا أذكر أنني بحثتُ هذا الاشتقاق، وإنما كنت أقول كثيراً خلال بحوثي ومقالاتي : (لا يَتَمحَّض شيءٌِ للخير أو الشر مهما استقرأت ما في البحر من دُرَّة، وما في البحر من بعرة)، وكنت أتمثل كثيراً بقول القائل:
وشعرٍ كبعر الكبش فرَّق بينه
لسانُ دعي في القريض دخيلُ
وهذا كثير في الشعر المُحْدث لا في شعر الحداثة، وقد نذرت جهدي لتخليص شعر الحداثة من بعر الكباش؛ لانتقاء دُرَرِه، والشعر المحدث من فعل (أحدث)، وكل محدثة بدعة، والهمزة في أحدث للتعدية من طرف آخر؛ فالحدوث مفروض على إرادة الفن.. أما الحداثة فهي من (حدُث) بدون همزة، وبضم الدال مِثْلُ فَصُحَ فصاحةً، وهذه الصيغة تدل على التلقائية؛ فلما حدث هو بنفْسِه حداثة: كانت الحداثة قيمة جوهرية.. أراد أنَّ الأدبَ اِكْتَسَبَ الحداثة بنفْسِهِ؛ لأن العقول تلاقحت، والثقافات تكاثفت، والنظرية الجمالية اقتضتْ بطراً أدبياً فنياً.. ولقد مللنا بكاءَ الدِّمَن، وجفَّت دموعنا، واسترخت نياطنا من البكاء لأحزان ناجي، وأحلام بني عذرة، واحتجنا إلى غناء فكري جماعيٍّ.. وَوِجْدانُنا مِـنْذُ مذخورنا من الألحان في أبحر الخليل بن أحمد قليلٌ جداً؛ فقلنا: (مقياسُ أوزانِ شعرنا سُلَّمُ الموسيقى الرَّحْبة لا قوالب الخليل المحصورة)، ورَكَلنا بعر الكبش؛ إذ لم يعد صالحاً للاستدفاء به، وآثرنا الاجتهادَ في إطار القاعدة.. وليست القاعدة مقولة شخص أو جيل؛ وإنما هي عطاءُ الحضارات والثوابت من قيم المنطق والخير والجمال.. ويسعدني ويفرحني فرحاً لا حدَّ له أنْ يكونَ لأدبنا السعودي تواصلٌ عالمي حقيقي غير مُزَيَّف.. ولكنَّ الواقعَ أنَّ الأدب السعودي نكرةٌ بين الآداب العربية، ودعك من الأدب العالَـمي.. وما كُتِب عن بعض الأدب السعودي في بعض الدوريات أو الكتيِّبات: فإنما هو مجاملة سياسية، أو توصُّل أفراد، أو ترويج مؤسسات تسترحل الأدب.. وأبرز ملامِـحِ أدبنا في الجملة - شعرِه ونثره - أنه مدارس تقليدية تاريخية ذات قاموس واحد في اللغة والبلاغة وآفاق التصور المعرفي.. لا أستثني إلا مواهبَ أُراهِن على تبريزها، وإنما قمَعَها في الوقت الحاضر سوءُ تعاملِها الصحفي مع التراث وأهله؛ وإذن فالوقت الحاضر ليس ظرف باعٍ طويل؛ وإنما هو ظرف تحنيطٍ وسكتةِ غضب، وقد قضى على حاضره تنكُّرُ الحداثي وتخثرُّ التراثي.. والمستقبل بيد الله، ولكنني أراهن على مواهب ستخرج من صمتها الغاضب بوعي يتناغم فيه العقل والموهبة.
* * *
* عَلَيْنا بجوامع الدُّعاءِ، والدِّعاء الْـمُجَرَّب:
قال أبو عبدالرحمن : رؤيا (فوكايَ) وأخواتُها جَعَلْتُها للمسائلِ الجمالِيَّةِ، ولِـما تَزْخَر به الحداثةُ في الشرقِ والغربِ مِن منابِعَ ثقافِيَّةٍ وُظِّفَتْ في غير مُقْتضاها؛ فقلتُ كثيراً، ولَمْ تَتَّسِعُ أُسْبُوْعِيَّاتي لِـما هو أكثر؛ ولذلك إنْ شاءَ الله أكْثَرُ مِن جولة.. كما جَعَلْتُ مِن مادَّةِ (فوكايَ) منابِـعَ إيمانيَّة تشرح صدورنا، وتمنحنا الطمأنينَةَ في هذا الظَّرفِ القاتمِ الذي تكالبت علينا فيه الأمَمِ في أرواحنا وأموالِنا ومنشآتِنا ووجودنا القائدِ الْمُعْتَدِّ به على مدارِ تاريخنا الإسلاميِّ.. هكذا فعلتُ في الأسبوعيتين الماضيتين، وموضوعُ أسبوعيِتيِّ هذه عن موضوع لا يَطْمئِنُّ قلْبِ المُسْلِمِ بغيره، فأمَّا جَوامِعُ الكَلِمِ فأجْمَعُها هذه الأدعيةِ الصحيحةِ الثابتةِ شرعاً : (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا سَأَلَكَ منه عبدُك و نَبِيُّكَ محمدٌّ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَرسولُك محمدٌّ صلى الله عليه وسلم وعبادُك الصالحون)؛ ووجْهُ الجمْعِ والمنْعِ في هذا الحديث الشريف: أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم لمْ يطْلُبْ مُلْكاً، ولم يَدْعُ بدعاءِ سليمانَ بنِ داوودَ عليهما صلواتُ اللهِ وسلامُه وبركاتهُ، وإنما دعا ربَّه أنْ يجعلَ عِيْشَةَ أُمَّتِهِ عيشةَ كفافٍ، وأنْ يَقِيَهُمْ شُحَّ أنْفُسِهم؛ فإذا حَصَّلوا المال بِحِلِّه (وهم لا يُـحَصِّلُونه إلا كذلك) : أنْفَقُوه في ساعَتِه في سبيل الله، وفي سَدِّ حاجة الفقراءِ،وفي صِلَةِ ذوي القربى صَدَقَةً وصِلَةَ رحمٍ؛ ولهذا أثَّرَ الحصيرِ في جنبِه بأبي هو وأُمِّي، وَتَتَهلَّلُ أساريرُ وجْهِهِ الكريم الشريف إذا فَرَّقَ المالَ ذات اليمين وذات الشِّمالِ في مصالِحِ المسلمين، وَلَقِي رَبَّه ودِرْعهُ رهين صاعِ شعيرٍ، وأخبرت عائشة رضي الله عنها أنَّ طعامَهم الأسْودان (الماءُ والتَّمْرُ)، وعبادُه الصالحون رضي الله عنهم على سُنَّتِه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال أحدُ الصحابةِ رضي الله عنهم - وقد تجَشَّأ أحدُهم في الْـمَسْجِدِ -: إنه يَمَرُّ الشَّهْرُ والشهران ما طُبِخَ الطعام في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهو لو طلبَ مُلْكاً أو دنيا لأرسلها الله إليه مُنْقادةً.. هكذا اصْطفاهُ رَبُّهُ واختار له؛ فلا فرحَ للقلب ولا طمأنينةَ إلا باستفتاح الصلاة بين الأذانِوالإقامةِ، وفي أطرافِ الليل والنهار بمثلِ ذلك، ومَنْ لَمْ يَصَدِّقْني فَلْيُجَرِّبْ.. وقد يريد العبدُ من رَبِّه شيئاً فلا يُفْتَحُ له في الدعاء، ويهْربُ مِن ذاكرتِه كلُّ دُعاءٍ حفظه؛ فيلجأُ إلى دعاءِ الجارِيَةِ الأُمِّيَّةِ العامِيَّة؛ إذ قالتْ : (ربِّ إنِّي لَقَّيْتُكَ سوادي، وأنت تَعْلَمُ ما في فؤادي)؛ فجاءتْها فواتحُ الخيرِ مِن رَبِّها؛ فَمَنْ عُمِّيَ عليه الدعاء: فَلْيَقَلْ كما قالَتْه الجاريةُ، فسيرى فواتِحَ الخير مِن ربه، وقَدْ جَرَّيتُ ذلك ففتحَ الله عليَّ بهذا الدعاء: ((يا حَيُّ يا قَيُّومُ، يا مَنْ يُجِيْبُ الْـمُضْطَرَّ إذا دعاه، يا مَن وَسِعْتَ كلَّ شَيْءٍ رحمةً وعِلْماً (وأردِّدها ثلاثاً)، بيدِك الخيرُ وأنتَ على كلِّ شيءٍ قدير))، وأكرِّرها ثلاثاً؛ فقضيتُ نومي ويقظتي وليلي ونهاري ثَمِلاً، وساق اللهُ إليَّ رِزْقاً لم أَحْتَسِبُهُ مِن سَرِيٍّ من أهل (قطر)؛ فوسَّعْتُ على أهلِي في عيد الأضْحَى المبارَكِ أضاحِيَ وكساءً وَصَدَقَةً، وصدقَةً أخرىَ وصِلَةَ رَحِمٍ؛ فلله الحمدُ والشكْرُ والمِنَّة، وجزى الله عَنِّي ذلك السَّرِيَّ صلاحاً في نفسه وفي دينه وفي أهله وفي وَلَدِه وفي ماله.. وما أسْلَفْتُه من الدُّعاءِ الْـمُجَرَّبِ؛ وَصِفَةُ الدعاءِ الْـمُجَرَّبِ : أنَّ كلَّ جُمْلَةٍ مِنْه صحيحةُ الثُّبوتِ شرعاً،ولكنَّ الدَّاعِيَ لا يَأْثِرُ ورودَها في الشرعِ بهذا التركيب؛ وإنما الْـمَأْثورُ توظيفُ الأدعيةِ الْـمُتَعَلِّقَةِ بما ينْتابُه في سُوَيْعاتِ الإجابةِ زماناً كثلثِ الليل الآخر، ومكاناً كالحرم المكِّي، وحالاً كنزول المطر.. وأوصي بتلاوة سُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ ولا سيما في صلاةِ العِشاء وصلاةِ الْـفَجْرِ حيثُ يَنْشَرِح الصدْرُ لإطالة التِّلاوةِ بشرطِ أنْ لا يَغْفِلَ عن ختم القرآن ولو بعد أربعين يوماً؛ وتلك السور هي الحواميم ابتداء بسورةِ الزُّمَرِ إلى نهايةِ الأحقاف.. إنَّ في هذه السُّوَرِ ما يصلُ العبد بربِّه كأنه يراه بعين قلْبِه؛ ففي سورة الزُّمَرِ - وكلُّ كلاَمِ اللهِ موعِظَةٌ وعبرة - الآيةُ 22 و 38 و45 ولا سيما إن بادرتَ بقولك: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِه الكافرون) مُجابَهةً لِـمَن يشمئِزُّ قلبُه مِن ذكر الله، وهكذا الآيتان 47و48 ولا سيما إذا تصوَّرَ موقَفه أما ربَّه حينما يجمع الله الخلائق والأرضُ بارزة وقد عُرِضوا على ربهم صفَّاً كما خلقهم أوَّلَ مَرَة، وهكذا الآيات 53و54 و55 , 56و57 إلى نهاية 61، وأما من الآية 68 إلى نهاية السورة : فإنَّ عبدالله المُكَلَّفَ إذا كان صافيَ الذهن تأخذه قشعريرةٌ وخشوع ودموع تَغْسِل لحيته، فليحرص على عدمِ مَسْحِها؛ فإن الله لا يعذِّبُ مُؤمِناً دمعتْ عينه من خشيةِ الله ولا سيما إنْ كان في خلْوةٍ لا يراه إلا ربُّه.. وأما سُوَرُ غافر وَفُصِّلَتْ والشورَى فأمرهنَّ عجبٌ، وتأثيرُهَنَّ في القلبِ يهبُ المسلمَ بإذن رَبِّه نعيماً مُعَجَّلاً.. ثم ينتقل إلى سورة الأنعام؛ فما أعظمَ تأثيرها !.. أَوَ لم تَصْهَلْ فرسُ أُسَيْد بن الحَضِير آخرَ الليلِ وقد رأتْ الملائكةَ عليهم سلام الله وبركاته ظُلَلاً في السماء كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والْـمُسْلِمُ عنده حِسٌّ بحضورِ الملائكةِ، وتحصُلُ له قشْعَرِيرةٌ وخشية بالله ثم ببركةِ حضُورِهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى سَخَّرَهم للدعاء لأهل الأرض من المكلَّفين؛ ليستجيبَ لهم وهو العزيز الحكيمُ لا مُكْرِه له، ولا سيما مَن آمن بالله وملائكتِه وكتبه ورسلِه واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه؛ لأن الحيَّ لا تُؤْمَنُ علية الفتنة؛ فَيُثَبِّتَه.. أَوَ لم يقلْ سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [ سورة غافر/ 7-9]، ويليها سورة الأعراف؛ فهي مشْحُونَةٌ بالقَصص عن الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وبالعِبَر والمواعظ ولا سيما من بداية الآية 155 إلى آخر السورة؛ والراجح عندي أنَّ الوقْفَ اللازم عند {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ}، ثم يبدأ بقوله: {وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [سورة الأعراف/ 155]، ويُسْقط (صلى) التي هي علامةٌ للوقوفِ غير الأرجح.. والتقدير : (أتُهْلِكُهمْ وإيايَّ).. أي لو كان هلاكُهم قبل إهلاكي إنْ هي إلا فتنتك.. إلخ).. والسور الْمُفْتتحةُ بالتسبيح لها قريبٌ من هذا التأثير، وإن تركها للتلاوة التي يختم بها القرآن في أربعين يوماً أو أقل لكان في ذلك كفاية، وهكذا هود والإسراء وبقيَّةُ أخواتِ هودٍ التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل الأوان، ولا يضير أنَّ الحديث ضعيف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَرْوِهِ عن ربِّه؛ وإنما أخبر عن نفسه مِمَّا يَهُزُّ وجدانَه خوفاً من ربِّه، وأذكر نموذجاً واحداً هو قولُه سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [سورة الإسراء/ 39]، ونماذج ذلك كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ ليجرِّده للعبوديَّةِ لربِّه؛ وليؤدِّبَ أمَّتَه أمَّةَ الإجابةِ والخير العميم.. إنَّ ذلك الوعيد يهزُّ أضْعَفَ الْـمُؤْمنين إيماناً؛ فما بالك بأعبدِ العابدين صلى الله عليه وسلم؟.. إنَّ ذلك الوعيدَ لَيُشِيْبُ قبل الأوانِ.. ومثل ذلك في سورة نون، وسورةِ يونس كقوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96)} [ سورة يونس/ 94 - 96].. ولو قال الصحابي الراوي الذي ضَعَّفوا إسنادِه : (إنما شيَّبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل الأوان: هودٌ وأخواتها)،ولم يَسْمَعْ من رسول الله أنه قال ذلك : لكان صادقاً؛ لِما يعرفه مِن شِدَّةِ خشيةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم؛ ولِما يعرفه ويعلمه مِن دلالاتِ الآيات في تلك السُّورِ؛ وإلى لقاء قريب إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.