أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كتاب (زُبْدَةُ التفاسير) من تأليف الدكتور (محمَّد بن سليمان الأشقر) رحمه الله تعالى: طُبِعَ فيه زبدةُ التفسير لكلِّ آية مِن كتاب الله سبحانه وتعالى في مجلد واحد بالحجم المتوسط، وعَدَدُ الصفحات 608.. أي 304 ورقة بطباعةٍ حروفُها مُدْمَجةٌ لا تكاد تستظهرها
إلا بالمُكبِّر، وصدر بالتصوير عن مصحف المدينة المُنَوَّرة عن مجمع الملك فهد رحمه الله تعالى لطباعة المصحف الشريف سنة 1415 هـ.. وَلِيَ أكْثَرُ مِن استدراكٍ على هذه الزُّبَدِ سأتناولها إن شاء الله تِباعاً على حَسِبَ نشاطي؛ ومِـمَّا أسْتدْرِكُه هذا اليوم التفسيرُ لِلقاءِ محمدٍّ موسى عليهما صلوات الله وسلامه وبركاتُه في سورة السجدة مِن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} (23) سورة السجدة.. قال الْمُؤَلِّفُ في تفسيرها ص417 {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}.. أي التوارة؛ {فَلَا تَكُن} يا محمد {فِي مِرْيَةٍ}.. أي شك وريبة {مِّن لِّقَائِهِ}.. هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيلقى موسى قبل أنْ يموتَ، ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسرى به.. وقيل: فلا تكن في شكٍّ من لقاء موسى يومَ القيامة، وستلقاه فيها {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي جعلنا التوارة هدى لبني إسرائيل.. {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.. أي قادة إلى الخير يدعونهم إلى الهداية بما يُلقونه إليهم من أحكام التوراة ومواعظها.
قال أبو عبدالرحمن: كَلَّا.. لا هذا، ولا ذاك؛ بل الْـمُطابِقُ السِّياقَ الذي يُحْمَلُ عليه مرادُ الله: (لا تكن يا محمد في مِرْيَةٍ من لقاءِ القرآنِ الكريمِ الذي أنزلناه عليك التوراةَ التي أنزلناها على موسى (عليهما سلام الله وصلواته وبركاته).. لا تكن في مِرْيةِ مِن اللقاءِ؛ بِسَبَبِ أنْ تجد في التوراة التي بأيدي بني إسرائيل تبديلاً أو تحريفاً لِلْكَلمِ مِن بعد مواضعه؛ بل تَمَسَّكْ يا محمدُّ بالقرآن الذي أنزلناه عليك، واعلمْ عِلْمَ يقينٍ أنه ملاقٍ ( أي مُوافِقِ) ما أنزلناه على موسى عليه السلام قبل أن تصل إليه أيدي بني إسرائيل بالإسقاط أو التبديل أو التحريف، وجعلنا القرآن الذي أنزلناه عليك حاكماً على كُتُبنا التي أنزلناها على الرُّسُلِ مِن قبلك: تُصَدِّقُ ما فيها من الأخبار والأحكام، وتنفي ما فيها مِن تحريفٍ أو تبديل بإسقاط أو زيادَةِ افتراء.. ثَّمَّ اعلموا أنَّ الْـمِرْيَةَ (شَكٌّ) بلا ريب؛ ولكنَّه شَكٌّ مُقَيَّدٌ بأنَّ معه (مِراءٌ) مِن الجِدال بالحق كما قال تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} (22) سورة الكهف.. أي جادلهم بإبلاغِكَ إياهم أنَّ العِلْمَ بعدَّتِهم عند الله وحده وحسبُ.. أي لا تزِد على ذلك .
قال أبو عبدالرحمن: كلامُ الله نزل بلغةِ العرب، وكل رسول نزل عليه الكتابُ بلغةِ قومه؛ ليبيِّن لهم، فمن فسَّرَ القرآنَ الكريمَ بغيرِ لُغةِ العرب (ومِن لغةُ العرب التعريبُ، والاقتراض، والمجازُ الذي يكون هو مرادَ الله إذا غلب استعماله وتعيَّن إعمالُه): فقد خالفَ مُرادَ الله عن خطإِ معفوِّ عنه، أو عن عَمْدٍ يُعاقب عليه؛ لاتِّباعه الهوَى.. وههنا أصلان لا يَحِلُّ تَعدِّيهما: الأول: أن أقربَ مذكورٍ (الكتاب)؛ فضميرُ (لقائه) عائدٌ إلى الكتاب.. والثاني: أنَّ الخبر عن (الكتاب)؛ لأنَّ الله قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ولم يقل: (ولقد آتينا الكتاب موسى)؛ فيكونُ موسى أقْرَبَ مذكور لضمير (لقائه)؛ فَتَعَيَّن بهذين الأصلين: أنَّ اللقاء بين التوراة التي أنزلها الله على موسى، والقرآنِ الذي أنزله على محمد صلى الله عليهما وسلم..وسورة ُ السجدةِ مَكِّيَّةٌ بعد الإسراء، وقد ثبتَّ الله قلبَه بأنَّ كلَّ ما رآه في الإسراء حَقٌ من ربِّه لا يقدر عليه أحدٌ سواه؛ وكلُّ مَن سواه فهم عبيده وخلقه ومُلْكُه.. بل ثبتَّ الله قلبَ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ إذْ قال لقريش وهم متعجبون تَعَجَّبَ تكذيب وإنكارٍ لِـما قَصَّه عليهم مِن الإسراء والمعراج: (إنْ كانَ قاله فَصَدَقَ).. هذا والله هو الإيمانُ المُنْجِي، والنعيمُ المُعَجَّلُ.. اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة ثباتاً لا يَعْتَوِره أدْنى شكٍّ؛ إذن لا مِيزةَ في تخصيص موسى بالذكر: بأن ْ لا يَشَكَّ محمد في لقائه موسى في الإسراء ، بل هو على يقين من لقائه النبيين والمرسلين منذ أبينا آدم إلى عيسى بن مريم عليهم جميعاً صلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه ؛ فتعينَّ: أن المرادَ التقاءُ القرآنِ والتوراةِ (حالَ نزولِها مِن عند الله قبل عَبَثِ العابثين من بني إسرائيل) على الدين الحق الذي أنزله الله أحكاماً وأخباراً..وضميرُ {وَجَعَلْنَاهُ} في قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} عائدٌ إلى الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام قبل عبث العابثين ؛ فهو هدى له حال نزوله بما فيه من هدايةِ الله الكونية والشرعية القائِمةِ بهما الحجَّةُ على الذين هداهم الله باتِّباع رسول الله إليهم؛ وبالنتيجة يكون موسى هُدىً لهم؛ لأنه بيَّن لهم آيات ربه التي هداهم الله بها.. ورجوع الضمير إلى الكتاب (الذي هو التوراة) اتداءً يُبَيِّنُه قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24) سورة السجدة؛ وهكذا الضمائر في الآيات بعدها.
قال أبو عبدالرحمن : ياليتَ كتابَ (زُبْدُةُ التفسير) المبارَكُ يُطْبَعُ بحروف كبيرة؛ فأبناء اليوم لَيْسُوا كأبناءِ أمسِ يَرَوْن هالةَ القمَرِ بعد الظهر، ويرون النجوم!!.. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحْيَيْتَنا وبلاغاً إلى خير.. ولم يسلم الإمام الجهبذ ابن كثير في تفسيرِه النفيسِ جدّْاً مِن حَمْله الضمير على ما حمله عليه مَنْ ذُكِروا في الزُّبْدَةِ.. قال رحمه الله تعالى في تفسيره : يقولُ تَعَالَى مُـخـْبِراً عَنْ عَبْده وَرَسُوله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: أَنَّهُ آتَاهُ الْكِتَاب (وَهُوَ التَّوْرَاةُ).. وَقَوْلُه تَعَالَى: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَة مِنْ لِقَائِهِ}.. قَالَ قَتَادَة يَعْنِي بِهِ لَيْلَة الْإِسْرَاء.. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَة الرِّيَاحِيّ قَالَ: حَدَّثَنِي اِبْنُ عَمّ نَبِيّكُمْ (يَعْنِي اِبْنَ عَبَّاس) [رضي الله عنهما].. قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْن عِمْرَان رَجُلًا آدَمَ طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَال شَنُوءَة، وَرَأَيْت عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوع الْـخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَة وَالْبَيَاض، سَبِطَ الرَّأْس .. وَرَأَيْت مَالِكاً خَازِنَ النَّار وَالدَّجَّالَ)).. فِي آيَات أَرَاهُنَّ اللَّه إِيَّاهُ..? فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَة مِنْ لِقَائِهِ?: أَنَّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى، وَلَقِيَ مُوسَى لَيْلَة أُسْرِيَ به.
قال أبو عبدالرحمن:إذنْ ما هي خصوصية موسى في إعادة الضمير إليه في حقائق أراه الله إياها فَوْرَ انتهاء الإسراء والمعراج ؟!.. ثم قال ابن كثير: ((وَقَالَ الطَّبرَانِيّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ: حَدَّثَنَا رَوْح بْن عُبَادَة : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة: عَنْ قَتَادَة : عَنْ أَبِي الْعَالِيَة: عَنْ اِبْن عَبَّاس [رضي الله عنهما] عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}.. قَالَ: جُعِلَ مُوسَى هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيل.. وَفِي قَوْله: {فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ} قَالَ: مِنْ لِقَاء مُوسَى رَبّه عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُ} أَيْ الْكِتَاب الَّذِي آتَيْنَاهُ {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيل} كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْإِسْرَاء: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} (2) سورة الإسراء.
.. قال أبو عبدالرحمن: إذنْ الأمر منصوصٌ عليه بلا احتمالٍ: أنَّ الكتابَ (؛وهو التوراة) هو مَرْجِعُ الضمير.. وإلى لقاء قريب إن شاء الله مع آيةٍ أخرى والله المستعان.