أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
رؤيا فوكايَ لبدر شاكر السياب أُغْرِم بها النُّقاد، وتَفَنَّنُوا في تحلِيلِها على أنها من إبداعِ رُوَّاد الحداثة!!.
قال أبو عبدالرحمن: لا أرى أنَّ قصيدةَ السيابِ تَسْتَحِقُّ كلَّ هذا الضَّجِيْجَ الْفَنِّي، ولا أَدَّعِيْ أنها محرومةٌ مِن الإبداع الحداثي، ولكنَّ هذا الإبداعَ في نطاقٍ ضيِّقٍ جِدّاً؛ وهو اشتراطُ واقِعِيَّةِ الأدب؛ فما كان افتراءً على واقِعِيَّةِ الأدب يَدَّعي ما ليس هو من دلالة النَّصِّ بأيِّ وجْهٍ يُعْقل، ويفتري على سياق الآداب من ناحيةِ الاحتفاء بدلالةِ الموتِ والبعث التي فَصَّلْتها في مقالتي في الأسْبُوعِ الماضي بعنوان: (رُؤْيا (فوكاي) والمنابعُ الثَّقافِيَّة)؛ فيخلص للسياب من ذلك الإبداعِ: توسِيْعُ دلالةِ اللغة الْمَحصُورة في السِّياقِ التي تُسْتَنْبطُ من اقترانِ الْجُمَلِ، والمعهود الذكري الْحُضُوري مِثْلِ الرسولِ في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [سورة المزمل/15-16]؛ فالمراد من (آلْ) معلومٌ مِن تعيين (رسولاً) بأنَّه الْمُرْسَلُ إلى فرعونَ؛ ليبلِّغَه؛ وهو نفسُه الْمُرسَلُ إلى موسى عليه السلام وعلى الرسول سلام الله وبركاته؛ ليبلِّغ أمْرَ ربِّه.. ومِثْلُها (اَلْ) الذِّهنيَّةُ كقولك: (هل حَضَرْتَ الحفْلَ؟)؛ فَاَلْ في (الحفْلِ) معهود ذهني بين المخاطِب بصيغة اسمِ الفاعِل والْمُخاطَبِ بصيغةِ اسم المفعول، ودلالة الْمَعْهُودِ العلمي مِثْلِ قولِ صديقِك: (مِنْ أين قَدِمَ أخوك؟)؛ فتقول: (مِن القاهرة)؛ فالقاهرة معهودٌ عِلْميٌّ عندكما وإنْ لم تزوراها؛ وذلك الإبداعُ هو ما يُسَمُّونَه ( تَفْجِيْرَ اللغة )، فَلْنَسْبُرْ ذلك من دلالةِ نصِّ القصيدة، ودلالةِ منابعها الثقافية آخذين في ابتداء النَّظَر بادِئَ ذي بدءٍ: أن القصيدة من الأدب الْمُقارَنِ، ومِن ينابيعها الثقافية قصائدُ (ستويل) الثلاث، وقد تحدث عنهن الدكتور عبدالواحد لؤلؤة بقوله: «ولعل مرحلة أنشودة المطر 1955-1960م من أغنى مراحل التطور الشعري عند بدر؛ ففي هذه الفترة وجد أن انشغاله بشعر (إليوت) و(ستويل) يدفعه إلى غيرهما من شعراء أوروبا المعاصرين؛ فيترجم لعدد منهم قصائدَ مختارة، ويهمنا في هذا المجال ترجمةُ آخرِ ثلاثِ قصائدَ من مجموعة (ستويل) أنشودة الوردة، وهي القصائدُ تحت عنوان (ثلاثُ قصائد عن القنبلة الذَّرِيَّةِ) التي نشرها في مجلة التضامن الصادرة ببغداد عام 1960م؛ وهذه القصائد على التوالي:
1 - بكائية للشروق الجديد.
2 - ظِلُّ قابيل.
3 - أنشودة الوردة.
قال أبو عبدالرحمن: لم أطلع على ترجمة بدر لهذه القصائد، ولا علم لي بمدى انتشارها بين القرَّاء ولا سِيَّما محبو شعرِ بدر.. ثُمَّ قال الدكتور لؤلؤة: ولا أجد المجال لترجمتها هنا، فهي تُشكِّل أكثرَ من عشر صفحاتٍ بمعدل خمسة وعشرين سطراً في الصفحة، ولكن لا بأس من مرورٍ عابر بهذه القصائد [يا ليته ترجمها كاملةً]؛ لنرى مدى تأثيرِها في شعر بدر في فترة أنشودة المطر هذه.. تحمل القصيدة الأولى تحت العنوان عبارة بين قوسين: (خمس عشرة دقيقة بعد الثامنة من صباح الاثنين السادس من آب 1945م).. هذا التحديد الزماني يحاول نقل الصورة الشعرية عن الكارثة بإسقاط القنبلة الذرية قريباً من القارئ.. تبدأ القصيدة بتصوير الهلع في قلب المتكلم (الشاعرة لحظة اقتراب الكارثة)؛ فتصوِّر الإنسانَ لِصاً معلقاً على الصليب بين المسيح [عليه السلام] وبين لحظة الدمار.. لم يبق من قلب الإنسان إلا ظِلُّه، وقابيل الملطَّخ بالجريمة، وتيرون قاتل أُمِّه (الأرض):
(ولكن لا عيون تحزن.
فلم تبق عيون للدموع).
في البدء كانت البراءة والنور المقدس.. كان كل شيئ في سلام، والآن فار الدَّنسُ في قلب الإنسان، وانطلق الإشعاعُ من تلك الحرارة يعصف بالسماء كأنه يبحث عما يلتهمه؛ فاعتصر كل ما ينمو حتى جفَّ، وشرب النخاع من العظام.. [قال أبو عبدالرحمن: هذه صُوَرٌ جميلةٌ إبداعيَّةٌ في نفسِها؛ ولكنها خارجُ توظيفِ دلالةِ الموتِ والبعثِ؛ من أجل الاستمتاع بحياة باسمةٍ سعيدةٍ واعِدةٍ بالفألِ السَّعِيد]:
[العميانُ الأحياءُ والموتَى المبصرون يرقدون معاً.
كأنما في محبة..لم تعد ثمة كراهية إذن.
كما لم يبقَ ثمَّةَ حُبٍّ.. لقد غاب قلب الإنسان].. وانظر عن القصيدة مجلة الفكر العربي المعاصر شباط سنة 1981م العدد العاشر ص 160.. وبدر شاكر السياب رائد الشعر الحر لعبدالجبار البصري ص 83/ طبع ببغداد سنة 1966م [لؤلؤة].
قال أبو عبدالرحمن: على الرُّغْمِ مِن أنَّ الْحَداثَةِ الغربيَّةِ بالغين المُعْجَمةِ، والعربيِّةِ بالعين المُهملةِ تشاؤُمِيَّةٌ في احتفائها بدلالةِ الموتِ والبعث: فإنَّ الأديانَ الربانِيَّةَ الثابِتَةَ عن الله سبحانه وتعالى كُلُّها، وفِطْرَةَ اللهِ عبادَه: لم تجعل الإنسان لقيطاً لَمْ يُمَلِّكْهُ اللهُ شيئاً من الْقُدْرَةِ وَحُرِّيَّةِ الاختيار؛ بل خَلَقَهُ لِعمارَةِ الأرض كادحاً إلى أنْ يلْقى ربَّه يَسْعَى بكلِّ جُهْدِه لتحقيق الأفْضلِ من الأنفعِ والأكملِ والأجْمَلِ لنفسِه وللأحياءِ من الأناسيِّ والحيوان والطيور وأحياء النبات والزواحفِ والحشرات إلا ما كان مُؤْذياً أو قاتلاً؛ فيتوقَّاهُ وَيَسْتَدْفعه، وفي الضرورة يقتله.. وأما الْخُنُوعُ، وسدُّ كلِّ مَنْفَذٍ للأمل والفأل: فذلك اعتداءٌ على رسالةِ الإنسانِ في الأرض، واعتداءٌ على الوظيفةِ لدلالةِ البعثِ بَعْدِ الموتِ.. وبعد تَأَزُّمِي مِن جنايةِ الأدب الحداثي: أستعرِضُ نصاً للدكتور عبدالواحد لؤلؤة قال فيه: «يستمر هذا التعقيد والتداخل في الرموز في قصيدة بدر بشكلٍ يُشابه ما نجدِهُ في قصيدة (ظِلِّ قابيل) التي تُبالغِ في خلط الصور [التي] يُظَلِّلُها شَبَحُ الْمَوْتِ كما يظلل شَبَحُ موتِ (كونغاي) صُوَرَ القسمِ الأولِ من قصيدةِ بدر.. لكنَّ موتَ البراءة لا يقتل الأملَ بالنصر، واغتيالَ (لوركا) لا يضع حداً لقوة كلماته التي تبعث الخُضْرة في الرياح والغدير والقمر.. والمسيح قد انتصر يوم سَمَّروه؛ لأن دماءه التي سالت على الصخر نبتت منها الورود.. وهذه الصورة تتطور عن (أنشودة الوردة) قصيدةِ (ستويل) [قال] في الثالثة: [كنت على الصليب أكثر احمراراً من الوردة في المطر.. أم أنها دماء كونفاي ؟].. كلا البراءتين فداءُ المسيح، وكونغاي، ثم يأتي تعقيد جديد في صورةِ الرعبِ [؛ و] مبعثه صورةٌ أخرى تضميناً من (ستويل) يشير إليها بدر في الهامش، من قصيدة تنويمة الطفل.
قال أبو عبدالرحمن: قول لؤلؤة: «لكن موت البراءة لا يقتل الأمل.. إلخ»: كلامٌ يُثيرُ العَجَبَ مِن فُقْدانِ الصِّدقِ في موضوعٍ هو إمامٌ فيه؛ فقصيدةُ السيابِ ليس فيها بارقة أمل.. وقصة (القردة البابيون) في مصدرها لدى الشاعرة (إيديث ستويل)، وقد شرحها الدكتور عبدالواحد لؤلؤة بقوله: (تأتي هذه القصيدة بعد ما زال يهطل المطر في مجموعة (ستويل) من نتائج مطر القنابل.. [و] ثمَّة طفلٌ قتل طائرُ الفولاذ أمَّه، وعاد جنس البشر إلى جنسٍ من الوحوش؛ فلم يبق سوى القردة التي تحنو على اليتيم، وتنشد له ترنيمةً؛ لينام، وقد أخذ بدر صورتَه قلباً من أبياتٍ متناثرة في القصيدة:
[رغم أنَّ العالم قد انزلق وغاب.
ترنُّ صرختي العالية النشاز.
مثْلُ أغنيةِ طيور الفولاذ في الأعالي.
ما زال شيئٌ واحد..قد بقي العظم.
وراحت (البابيون) تتراقص:
عليك أن تزحف على الأربع.
لأنك لن تسقط من عال.
لنْ تمدَّ إليه يداً؛ فليس ثمة ما يُمْسك.
ولا ما يُصْنع.. ليس غير التراب يَسِفُّ.
ولا من طعام ترفعه الأيدي.
كل شيئٌ سواء.. العمى والبصر.
ليس من عمق.. ليس من عُلُوٍّ ].
من هذه الصورة البشعة عن الخراب الذي خلَّفه قصف القنابل: لم يبق في العالم سوى الطفل والأم في صورة الوحش؛ وهذا يذكِّرنا حتماً بانقلاب صورة البراءة المسيحية في الأم والطفل؛ فقد انقلبت المحبة كرهاً، والسلام دماراً.. من هذه الأبيات المتناثرة صنع بدر تضمينَه بتطوير الأصل؛ ليناسب جوَّ قصيدته من رؤيا فوكاي، وهي رؤيا رعب تشبه رؤيا (يحيى) في القسم الثاني من القصيدة (تسديد الحساب).. وهي رؤيا يوحنا اللاهوتي في الإنجيل التي تصور مشاهد من يوم الدينونة؛ ويوم الدينونة هو يوم الحساب.. تسديد الحساب.. هذا القسم الثاني يصطنع غموضاً قِوامُه اللغة والصور البلاغية، ونلاحظ أن الجوَّ المسيحي بما يوحيه ظِلُّ قابيل بأجوائها المسيحية ينقلب هنا إلى جوٍّ بإيحاءات إسلامية.. هذا نوع جديد من التطوير والقلب هو الذي أعنيه بإفادة بدر من قصائد ستويل فائدةً سلبية».
قال أبو عبدالرحمن: ههنا يَرُدُّ الدكتور على نفْسِه فيما سلف من قوله: ((لكنَّ مَوْتَ البراءةِ لا يَقتل الأمَلَ.. إلخ))، وقد ناقَشْتُه فيما مضى.. والمهمُّ في هذا السياقِ أنَّ أقطاب الحرب العالمية التي خلَّفت كارثة (هيروشيما)، وجعلت العالم إلى هذه اللحظة متأزِّماً: إنما هم إنجيليون يدَّعون الانتساب إلى المسيح عليه السلام، وهو نبي رحمة وسلام وتسامح؛ فكيف تصدر هذه الويلات عن نصارى أثنى عليهم ربنا في سورة المائدة وغيرها برِقَّة القلوب، وفيضان الدمع من خشية الله، كما وصفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحلم وأنهم أسرع الناس فَيْئة؟.. والجواب من جهتين: أولاهما: أن دين المسيح الصحيح ليس هو الذي يحكم حياتهم، كما أن ما بقي عندهم من آثاره أبعدتْه الفلسفاتُ الإلحادية والمادية والأنانية وثعلبية السياسة؛ فإنَّ سياسة الغرب لا دين لها ولا أخلاق.. وأخراهما: أن اليهود بأخطبوطهم الديني والعلمي والفكري والثقافي في القانون والإدارة والمحاماة والإعلام والفن.. إلخ: كلُّ ذلك طبَّع النصارى ذوي القلوب الرقيقة على الظلم والبطش.. ولا ريب أن هذا العتابَ المُرَّ لأقطاب الحرب منذ (هيروشيما) باسم الانتساب إلى المسيح مقصدٌ مِن مقاصد القصيدة؛ إذْ تضمَّن البناءَ على فكرة الصلب.. وأما ما ذكره لؤلؤة بقوله: «وهذا يذكرنا حتماً بانقلاب صورة البراءة المسيحية في الأم والطفل.. إلخ»: فلا يوجد في منبعٍ نصراني دلَّت القصيدةُ على أنه استقى منه، ولا يوجد في القصيدة أيضاً؛ إذْ الأم (القردة البابيون) لا تزال على أمومتها وحُنِّوها؛ وإنما الآفة العالَم الجديد المتأزِّم.. وبإيجاز فمسرحيةُ هيروديا للخال: ليستْ أمنية غالية عزيزة في نفوس اليهود في أسوءِ ظرف عربي هو عام 1947-1953م، والخال لا يسعه إلا أن يفعل؛ لأنه أولاً مضلَّل في دينه قد غبي عليه أن أبناء الأفاعي هم صُناعُ الأناجيل منذ (بولس الْمُكَرَّز)؛ ولهذا جعل كارثةَ (يوحنا الْمَعمدان) جناية رومانية لا يهودية.. ولأنه ثانياً باع نفسه للماسونية منذ تمتَّع بأموالها ودعاياتها وتطبيلاتِها، وعاد من أمريكا؛ ليفتح مجلَّة شَعرٍ أعظمَ مؤسسةٍ مدمِّرة فكراً وديناً باسم الأدب والفن قابلها الأبرياء بطيبة، ولا زالوا يَعِبُّون مِن غَثائها إلى أنْ عَرَكتْ الأُمَّةَ سُخْرِيَّةُ (الربيع العربي) ؟!؛ فتراجعوا عن كثيرٍ مِن تلك الأوشاب.. تلك هي قول هيرودس بعد الجريمة والثورة.
[هاهُم الخالقوه والقاتلوه
منذ كانوا حتى زوال الوجود
أو زوال اسمهم فلا تذكر إسرائيل إلا على شفاه العبيد!]
قال أبو عبدالرحمن: هذه وقفة لا تزيل الغباء عن يوسف الخال؛ لأنها اتِّهامٌ بلسان عدوِّ اليهود.. ثم إنه اتِّهام حوارِ اليهود الْمِثالي السابقُ ذِكْرُه؛ وإلى هذا فكونُ اليهودِ خالقي يوحنا، وما صاحبَ ذلك باسم الوطنية واليهودية ضد الرومان -وتلك هي البِذْرةُ الأولى في أدب الخال للطائفية، ومشروع ( أنطونْ سعادة)-.. والكفاحُ في تاريخنا ليس هو قوميةً بحتة، ولا وطنيةً بحتة؛ وإنما هو قومية ووطن دين.. أيْ أُمَّةُ إسلامٍ، ودارُ إسلام.. ولما نسخ الله الشرائع والأديان بدين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، ولما كانت الأرض لله، وكان الدين تنزيلُ خالق الوطن والقومية: أصبحَ من اللازم على بني آدم أنْ يُنفَّذوا عهدَ الله الشرعي، وإرادتَه الشرعية بأنْ تكونَ كل رقعةٍ دارَ إسلام.. ومن باب أولى مَن لديهم رقعةٌ من إرثٍ مِن الإسلام ومنحتِه: لا يحل لهم أنْ يجعلوا للأرض دعايةً غيرَ الإسلام.. واللهُ جلَّ جلالُه الذي نَسَخَ الأديانَ بدينِ الإسلام (والدينُ مِن عنده): هو الذي أورث الديارَ أُمَّةَ الإسلام بقضائِه الشرعي، وقضائه الكوني.
قال أبو عبدالرحمن: أذكرُ الآن نموذجاً لأخواتِ (رُؤْيا فوكاي) كتابَ (تحديثُ العقلِ العربي) للدكتور حسن صعب، وقد عَرَّفه بأنَّه دراساتٌ حولَ الثورة الثقافية اللازمة للتَّقدُّم العربي في العصر الحديث.. إنه يتغنَّى بالدين الإسلامي غناءً رومانسياً، ثم يدعو إلى الثَّوْرَةِ على مفهومه، والتعاملِ مع مواعظه تعاملاً طقسياً كتعامل الحُلُولِييِيْن؛ فكان التعبير عن هذه البرمجة بأسلوب تخيُّلي عاطفي كأساليب شرح (الأمانة) في كتب النصارى!!.. وضابطُ البرمجة ليس هو آيةً، ولا حديثاً من الصحيحين؛ وإنما هو حلولية (جلال الدين الرومي) في قوله:
[أنا لستُ مسيحياً
ولست يهودياً
ولست جبرياً ولا مسلماً
ولست من الشرق ولا من الغرب
ولست مِن البر ولا من البحرِ
إنني أنشد واحداً
وأرى واحداً
وأدعو واحداً]
ومدارُ هذه البرمجة على (التقريب بين الأديان)، و(تطوير الدين لا التطور معه)؛ ومصدرُ هاتين الفكرتين معروف.. ولهذا الدكتور كتابٌ آخرُ عن تحديث الإسلام؛ فلم يُقْلقه في هذا الكتاب شيئٌ كما أقلقه العبوديةُ لله جل جلاله!!.. ونرى (أمير إسكندر) يُصدر كتابَه (تناقضاتٌ في الفكر المُعاصر)؛ فنجد أكثر ما يروِّعه إشراقةُ التاريخ الإسلامي، وابتسامتُه؛ فيصطنع منهجاً طائفياً يدعو إلى وَأْدِ المذخور المشرق مع اتِّهامِه الغيورين على دينهم، وعلى العقلِ البشري بالتواطُؤِ التاريخي!!.. وَ وَدِدْتُ لَوْ لَمْ يجعل هذا الإمامُ في أدبِ الحداثةِ الطُّلْعَةُ الدكتورُ عبدالواحدُ لُؤْلُؤَةَ مَسْألةَ صَلْبَ الْمَسِيحِ عليه السلام وما تَبِعَها مِن دَعَاوَى مِن ينابيعِ دلالة البعثِ بعد الموتِ؛ فذلك ادِّعاءٌ يهودِيٌّ بَعْدَ تحريفِهم الأناجيل، وليس ذلك مِن دينِ الله الذي أنزله على المسيح عليه السلام.
قال أبو عبدالرحمن: مَدْحُ رَبِّنا للنصارى في مَحَلِّه؛ لأنه لا خُلْفَ في كلام الله، ومَن أصدقُ من الله حديثاً سبحانه وتعالى؟.. وذلك هو قولُه سبحانه وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [سورة المائدة / 82-85].. إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى لَمْ يَعُمَّهَمْ بهذا الوصف الكريم؛ بل قال في سياقٍ طويلٍ يَدُلُّ على عتابِ اللهِ إياهُمْ في اتِّباعهم اليهود بالآيات 72، و73، و74، و75، و76، و77 من سورة المائدة.. وما عاتبهم الله عليه من اتِّباعهم اليهودَ: أَنْتَجَ قَسْوَةَ قلوبهم، وتَخَلُّقِهمْ بأخلاق الظُّلم الذي يُبْكي القلوب.. مع أنَّ يهودَ جبناءُ لا يقاتِلون إلا مِن وراءِ جُدُرٍ؛ ومع هذا فبأسُهم بينهم شديد.. ونحن الآن نرى الصورة الناصِعَةَ لجبنِهم في هجوم الْجُنْدِي الإسرائيلي على طفلٍ مواطنٍ فلسطيني نصرانيٍّ أو مسلمٍ يريدُ الاستيلاءَ عليه؛ لإيصالِه إلى السِّجنِ، وَلِيَدَّخِرَ دَمَه لعيدهم الْمُفْتَرى على الله (عيدِ الْفُصْحِ)؛ وَدَمُ الطِّفِلِ النصرانيَ أَحبُّ إليهم مِن دمِ المسلم، والجندي الإسرائيليُّ يخاف مِن طِفْلٍ لَمَّا يَبْلغِ الحلم أو أخْته أو أُمِّه أنْ تُخَلِّصَ الأسير الطفل، ثمَّ تَقْتُلَ الجندي يطرفِ شُفَيْرَةٍ لا خطر لها، وهاهم يُعِدُّون الْعُدَّةَ والأجنادَ؛ لِمُقاومةِ أطفالَ الحجارة!!؟.. إنَّ مدحَ الله النصارى لَنْ يذهَبَ سدى؛ وإنِّما الْمَطلُوبُ التعاونُ بين المسلمين والنصارى في استثمارِ عناصرِ الخيرِ الْمُشْتَرَكةِ بين الفريقين، ودينُنا الناسِخُ المعصومُ المهيمن شاهدٌ لدينهم وشادٌ عليه، والرحْمةُ ورِقَّةِ القلوبِ جِبِلَّةٌ في النصارى بعد تطبُّعِهم بأخلاق عيسى بن مريم عليه السلام الذي اصطفاه ربُّه ومَنَحَه هذا الْخُلقَ الكريمَ، وثبَّته عليه.. وقولُهم في الأمثال: (التَّطبُّعُ يغْلِبَ الطبع) صَحِيحٌ إذا كان الطبعُ لئيماً، والتَّطَبُعُ ناتجاً عن ذلك الطبع الآثم.. والعالَمُ اليوم كلُّهُ لا يَسْتَطِيعُ جحد تألُّمِ المسلمين الخانِقِ من ظلم اليهود الذي أوقعوه على ضحاياهم من النصارى؛ فالنصارى مثلاً من الآشوريين وغيرهم الذين أُحْكِمَ الرباط على أيديهم مِن خلفهم، ثم أُحْرِقوا أحياءً، أوْ أُجْلِسُوا على ركبهم في الأرض في الثياب الصُّفْرِ الْمُعَدَّةِ لهم، وُسُنَّت السكاكين أمامَهم، وذُبحوا ذَبْحَ الشياه.. إنَّ الْمُسْلِمَ ليبكي، وتُغْرقُ الدموع وَجْهَهُ وعيونه وهو يقول مُبتَهِلاً حزيناً: (اللهم أَذْهِبْ غيظ قلوبِنا، وَاشْفِ غيظ قلوبِنا وغيظ قلوبٍ مُؤمنين).. والذي يفعلُ هذا الفعلَ الذي أَسْلَفْتَهُ هُمُ الصهاينة مِن الْمُغَرَّر بهم، ومِن الصهاينة اليهودِ أنفسِهم الذين استباحوا هذا الظُّلمَ، ونسبوه إلى دين الله تقدس ربي وجَلَّ شأْنُه: أنْ يرضى بشرعِه الفسادَ في الأرض من ذلك العدوانِ بإزهاق النفوس، ومِن تسويقِ الخُمورِ والْمُخدِّراتِ، ومِن تسويق السفاح، ومِن تسويقِ الفلسلفاتِ التي تَمْسَحُ نور العقلِ، وتَخْتَرِمُ الأعمارَ على الجنونِ والغيابِ عن منابِع السعادةِ مِن براهينِ الشرع الْمُطَهَّرِ وبراهينِ الله الكونيةِ في الأنفس والآفاق مهما تعدَّدَتْ أسماءُ الفِرَقِ المُسَوِّقَةِ من باطنيَّة وماركسية وبعثيَّةٍ وَنُصْرَةٍ ودواعِش؛ ومن ضحاياهم الأطفالُ وشِبْهُ الأطفالِ من شباب بلغوا خمسة وعشرين عاماً إلى ثلاثين، وأُعِدَّتْ لهم الأحزمَةُ الناسِفَة، وأُغْدِق عليهم المالُ، وَدُرِّبوا على صُنْعِ الْمُتَفجرَّاتِ، وقيل لهم: اقتلوا أنفسكم؛ لتقتلوا عشراتٍ أو مِئاتٍ، والجنَّةُ أمامكم.
قال أبو عبدالرحمن: وأما الْقَتْلَةُ الشنيعَةُ التي أوْقَعها اليهود على النصارى الأقباط: فكنتُ واحداً مِمَّن أبكتهم هذه المُصيبةُ؛ ولا سيما أن الأقباط أخوالُ إبراهيم بن عبدالله ورسوله محمد بن عبدالله الهاشميِّ القرشي عليهما سلامُ الله وبركاته، وقد أوْصى المسلمين بهم خيراً غيرَ أنْ لا يتاحَ لهم بناءُ كنائِسَ جديدة.. ومِن دين الله أنْ يُتْركوا يبنون كنائسهم، ويساعَدُ عاجزهم من بيت المال، وللإمام الْمُسْلِمْ أنْ يُساعِدهم ويطلُبَ مساعدتهم فيما فيه مصلحةٌ للفريقين، ولا يزال دعائي الذي أحافظ عليه في صلاة الفجر: (اللهم أذهِبْ غيظَ قلوبنا بشفائها وشفاءِ قلوبٍ مُؤمنين من أعدائك وعدِّونا).. وأقول قبل الرفع من الركوع: (سبحانَ ذي المَلكوت والجبروت والكبرياء والعظمة.. سبحانه ربي لا إله إلا هو الغنيُّ الحميد الحي القيوم الواحد القهار الغني الحميد.. حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلتُ وهو ربِّ العرش العظيم.. ربنا انصرنا على القوم الكافرين، ولا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.. إلخ.. وللحديث بقية، وإلى لقاء قريب إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعان.