د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
التفجيرات الانتحارية هي أخطر وأسوأ العمليات الإرهابية، وتكررت مؤخراً وللأسف بمشاركة بعض شبابنا فيها وهم في عمر صغير نسبياً، وما يلي محاولة لفهم ذلك من بعد آخر لعله يكون مفيداً لعلاج هذه القضية الخطيرة، فقد درج كثير من المحللين على تكرار التفاسير والشروح ذاتها،
وغالباً ما يأتي تعليل مسببات هذه الظاهرة مبسطاً ويوضع في قوالب قابلة للتعميم ليتداولها العامة والناس عبر الإعلام دونما فهم كامل لما تعود عليه. فغالباً ما نكتفي بوصف هؤلاء الإرهابيين بالمغرر بهم أو تصنيفهم كفئة الضالة، وهي أوصاف بلا شك تنطبق عليهم ولكنها في رأي الكاتب ليست كافية إذا ما أردنا فهم هذه الظاهرة المعقدة بشكل معمق يسبر أغوارها وعلاجها بدلاً من الاكتفاء بالمناصحة فقط، ولا شك أن المناصحة نجحت في تغيير مسار البعض منهم، ولكن هناك البعض الاخر الذي أطلق سراحه بعد مناصحته وعاود نشاطه بدرجة أكبر من التطرف وارتكب جرائم إرهابية أفظع مما توقع منه بعد المناصحة. وهذا في حد ذاته أمر محير، ولكن الأمر الأكثر إثارة للحيرة هو أن التجنيد لهذه الفئة مستمر رغم أن الشباب يستمع لوسائل الإعلام ونصائح المناصحين على كافة مستويات المجتمع، بل إن عمر المجندين أخذ يتناقص وهم اليوم أصغر سناً وكثير منهم في المرحلة المتأخرة من مرحلة المراهقة.
كما أننا نبرئ الإسلام وننأى به عن الإرهاب، حيث لا يساورنا شك في ألا علاقة للإسلام القويم بالإرهاب كنشاط مدمر، فتاريخ الإسلام الطويل كدين سلم وسلام لا يقاس بعمر فترات الإرهاب الوجيزة التي تخللته ولا تكاد تذكر. فالإسلام يعمق فيمن يلتزم به التسامح والتواضع ومحبة الآخرين، ولدينا أمثلة كثيرة من ملتزمين بالإسلام بعضهم لدرجة التزمت والتنطع ولكنهم مسالمون أو على الأقل لا يمكن أن يقدموا على أعمال إرهابية. ثم إن الإرهاب انتشر في بلدان لم يعرف عنها التطرف أو الالتزام الديني، بل وفي بلدان ليست مسلمة. وعليه فلا أقل من أن نفصل بين ما قد يراه البعض علاقة سببية بين «التطرف الديني» و»التطرف الإرهابي»، ولكن بالمقابل علينا أن نفسر ما هي علاقة الارتباط العالية التي ظهرت مؤخراً بين الأعمال الإرهابية والتطرف الديني في مجتمعنا، مع أن العلاقة بينهما كما أسلفنا هي على الأرجح ليست سببية سواء في جانبها الاجتماعي أو جانبها النفسي الفردي.
السؤال الذي يمكن طرحه ويستدعي في صلبه النظرة المتداولة لمسببات الإرهاب هو: هل الإرهابي خصوصاً الانتحاري تحول لانتحاري بسبب تطرفه، أم أنه انتحاري في الأساس وبحث عن التطرف فيما بعد؟ أي بمعنى آخر هل نستطيع «إجلاس» النظرة المتداولة على رأسها أو نعكسها مفاهيمها؟ وهل سيساعدنا ذلك على فهم أعمق لهذه الظاهرة الغريبة وبالتالي يسهّل علينا علاجها؟ أم أن النظرة المختزلة المتداولة كافية لفهم هذه الظاهرة الإِنسانية المعقدة وبالتالي لا حاجة لنا لتعميق فهمنا لها؟ إذا كان الخيار الثاني مرجحاً بشكل مؤكد على الخيار الأول فلنقفل إذاً مراكز دراسة ظاهرة الإرهاب ونكتفي بما توصلنا من تفسيرات تربطهم بثقافة تفصلهم عنها آلاف السنين، وظهرت في سياق مجتمعي وحضاري مختلف جداً عما يعايشونه اليوم، ونكتفي بوصمهم بالاختلال المعتقدي. والتاريخ الإِنساني مليء بقضايا الإجرام والإرهاب التي عزيت بداية للاختلالات الفكرية والعقلية، واتضح فيما بعد أن هناك قصوراً في فهمها وعلاجها إذا اكتشف أن لها جذورا مجتمعية. وعموماً تبقى مثل هذه الأمور النظرية داخل دائرة الاحتمالات حتى تجد ما يدعمها من الحقائق والإحصائيات الدراسية.
ما أذهب إليه هنا هو أن هناك وجهة نظر قد تستحق التفاتة من المسؤولين والمهتمين بالقضاء على هذه الظاهرة المؤرقة لنا جميعاً، ووجهة النظر هذه تنطلق من عكس النموذج المتداول وترى أن الشباب الانتحاري هم فئة معينة خاصة ضمن الفئات الإرهابية ذاتها، أي أن الفئات الإرهابية تختلف فيما بينها في طرق تفكيرها وأساليب عملها، ولعل هذا الأمر معروف للجهات الأمنية. والفئة الانتحارية، وهي الفئة الأخطر بين الإرهابيين، لها نظرة سوداء للحياة والمجتمع تدفعها بشكل قاطع للخلاص منها بالخروج منها بشكل قطعي، وهذا يميزها عن المجموعات الأخرى التي تفاوت دوافعها بشكل كبير بين الدوافع المادية، وحب المغامرة والبحث عن إثبات الذات لتحقيق أحلام رومانسية سياسية أو إعادة نمط حكم معين كالخلافة وغير ذلك مما يستدعي تبنيها للفكر الفئوي المتطرف. وهنا يمكن القول إن الرغبة الجامحة للخلاص من الحياة هي التي يتم استغلالهم من قبل المخططين للإرهاب بالزج بمن تظهر عليه علامات اليأس من الحياة في العمليات الانتحارية. فالأحرى هنا أن كثيرا من الشباب الانتحاري قد قرر الانتحار أولاً ثم بدأ يبحث عن الطريقة فيما بعد. وهو هنا يبدأ في التفكير في الموضوعات التي تتعلق بما بعد الموت فيختار الموت متطرفاً لعله يدخل الجنة، ويختار أن ينظر لانتحاره على أنه عمل بطولي لا عمل جبان يتلخص في الهروب من واجهة الحياة. وهذا يطرح التساؤل عن الفرق بين الانتحار السري والتفجير الانتحاري البطولي في نظر الإرهابي. فالانتحار الإرهابي الذي يقتل الكثير من الآخرين المختلفين الذين يُنظر لهم عادة من قِبل الفئة الضالة التي ينتمي لها الانتحاري أنهم يستحقون القتل يعده الانتحاري عملا بطوليا، إضافة إلى أن العبء الأخلاقي للانتحار والقتل يمكن أن يلقى به على شخص آخر أفتى به، بينما الانتحار الانفرادي ينظر له عادة على أنه عمل جبان يفضي لا محالة للنار. أي أن الانتحار الإرهابي يحول الانتحاري كما صنفه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دركهايم من انتحار فردي أناني إلى انتحار بطولي إيثاري، أي انتحار لمصلحة الآخرين.
ولو اتفقنا على أن التفجير الانتحاري هو ضرب من ضروب الانتحار، وهو بلا شك في عمقه كذلك، لكان الأحرى بنا أن نبحث عن مسببات السلوك الانتحاري لدى الشباب لا الاختلال الفكري العقدي، وقبل أن نلوم التطرف الديني الذي هو في نهاية المطاف حاضنة بيئية لهذه الاختلالات النفسية - الاجتماعية، حيث يجمع علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي على أن مسببات الانتحار حتى ولو كان سلوكا فرديا بحتا هي في عمقها اجتماعية منشؤها الأساس اختلال بين التكوين الاجتماعي والانعكاس الفردي لهذا التكوين في عقلية الفرد، فإذا تباعدت التطلعات والتصورات الفردية الذهنية للفرد كثيرا عن المثل والعادات الاجتماعية، يتكون لدى الفرد حتى ولو كان يمارس حياته في المجتمع، حالة متطرفة جداً من «الإفقار الاجتماعي» والإحساس بالانعزال النفسي التام، وإذا فقد الأمل بشكل مطلق في التأقلم مع المجتمع والانخراط الطبيعي فيه، تبدأ لديه هواجس الانتحار أو الانتقام من المجتمع، وعندئذٍ يبحث في وسائل الخروج من الحياة بشكل مشرف فيتطرف دينيا ويقدم على عمل انتحاري.
وهذه الظاهرة لا تختص بثقافتنا فقط ولكن بكافة المجتمعات الإِنسانية مثل انتحار الآلاف في انديانا جونز في أمريكا، أو في انتحار الهاراكيري في اليابان، وظواهر الانتحار الجماعي الأخرى. ولذا فقد يكون علينا تأسيس أنشطة علاجية نفسية تساعد الشباب الذي تظهر عليه علامات التباعد عن المجتمع، وزيادة الأنشطة التي تسهم في انخراط الشباب في المجتمع من كافة الأوجه والتوقف للنظر لهذا الفئة على أن مصدر إزعاج فقط.