عبدالعزيز القاضي
وإلى بذلت النفس والفلس وإبليس
يطيح ناس يدّعون الديانات
هذا البيت جزء من مقطع حرف القاف في ألفية ابن عمار الشهيرة, وقبله:
القاف قل للي يريد النواميس
واللي شفيق ٍ بالهوى يرخي الكيس
والبيتان وإن وردا في قصيدة غزلية ملتهبة إلا أنهما يقرران فكرة تكاد تكون حقيقة, وهي «بالمال يُشترى كل شيء» وهذا مشاهد معلوم في كل زمان وفي كل مكان, ومطرّد بنسبة كبيرة. كما أنهما يطرحان قضية (اجتماعية/ دينية) كانت الأكثر حضورا في المجتمعات النجدية تحديدا خلال المائة سنة الأخيرة تقريبا, وكان لها الأثر العميق في تنظيم العلاقات بين الناس, وهي قضية (الهيمنة والتدخل في شؤون الناس الخاصة والتضييق عليهم باسم الدين) بحسن نية على الأغلب وبسوء نية أحيانا, ولا أقصد العلماء الربانيين بل المتعالمين أو مدّعي التدين كما ورد في البيت, والعيب بالطبع في الناس الذين يستغلون محبة الناس للدين وأهله فيتسلطون عليهم لإرضاء غريزة «حب السيطرة» في نفوسهم, والاستمتاع بممارسة الدور القيادي في توجيه الناس ولو على جهل وتعسف, فأساؤوا للناس ولأنفسهم وقبل ذلك أساؤوا للدين الحنيف.
وأظن أن المسألة لا علاقة لها بالدين بل بغريزة حب الهيمنة, وكان (ادعاء التدين) في تلك الفترة هو الأسلوب الوحيد الذي يتيح للجهلة وضعاف النفوس تحقيق نزواتهم التسلطية, أما اليوم فلم يعد وحده الذي يمارس الترهيب الاجتماعي لتحقيق الاستلاب الفكري وفرض الرأي بالمغالطة وتهميش الأولويات الفطرية, بل حلت محله أساليب أخرى - تنافي الدين شكلا وجوهرا - أكثر مكرا, وأعمق أثرا.
ويؤكد ابن عمار في بيت السياحة والبيت الذي قبله ما جاء في المثل العامي (ما يخدم بخيل), ويقول: إن تقديم الهوى والمال والرغبة الخبيثة والإغراء وعبر عنها بقوله (النفس والفلس وابليس), يسقط مبادئ مدّعي التدين ويكشف حقيقتهم. ثم يشرح هذه الفكرة بالبيت التالي:
طاحوا وصاروا للخلايق علاجه
يلقى بهم راع الهوى قضى حاجه
فهم علاج من يحتاج إلى علاج, وبهم تُقضى المآرب, والمال هو مفتاح هؤلاء الأشرار المتلبسين بثياب الأخيار, وهو الذي يتيح للعاشق أن يستفيد من خبراتهم وكفاءاتهم وسلطتهم أيضا في تحقيق مآربه أو على الأقل تحييدهم وتغاضيهم عنه, والأصفر الرنان كان ولا يزال وسيظل له وقع السحر في النفوس, وبه تُحلل المحرمات لدى بعض قال أحمد شوقي:
المالُ حلل كُلَّ غَيرِ مُحَلَّلِ
حتّى زواجَ الشيبِ بِالأبكار
والمال ينطق الأخرس قال حميدان الشويعر:
ألا يا ولدي صفر الدنانير عندنا
تنطق شفاه في لياليك خارسه
قتين بعنوان (المال سلطة تعز الذليل وتذل العزيز!), ثم يضرب ابن عمار لهذه الفكرة مثلا مقنعا ومؤثرا فيقول:
وإلى نثرت الحَبّ جتك الدجاجه
حارت وباضت لو تبي عشر بيضات
وفي المثل العامي (اطعم الفم تستحي العين), وقال أبوالفتح البستي:
أحسنْ إلى الناسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ
فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ
من جادَ بالمالِ مالَ الناسُ قاطبةً
إليه والمالُ للإنسانِ فتانُ
وبيت ابن عمار هذا نسخة مطورة ومزيدة من قول بشار بن برد:
يسقط الطير حيث يُلتقط الح
بُّ وتُغشى منازل الكرماء