عبدالعزيز القاضي
يا ما على صكات بقعا تلزيت
مرٍّ على بردٍ ومرٍّ سمومي
(. . .)
وهذا بيت من ثلاثة أبيات جميلة لا أعرف قائلها, وبعده:
ما تدفي العنة ولا يدفي البيت
ولا يدفي البردان كثر الهدومي
ما يدفي إلا لمة الحي والميت
لا نمت أنا واياه حدر النجومي
وصكات: جمع صكة, بفتح الصاد وتشديد الكاف, وهي الضربة الشديدة (فصيحة) وبقعا: هي الدنيا, ولا أعرف سبب تسميتها بهذا. والمراد بصكات بقعا: مصائبها وشدائدها وسنواتها الممحلة. تلزيت: صبرت وتحملت على ذل ومضض, (مرٍّ), بفتح الميم وتشديد الراء المنونة: أي مرة, واستعمالها بحذف التاء رائج في عامية نجد.
والعنة, بكسر العين وتشديد النون: سياج يُتخذ أغصان الشجر يراكم بعضه فوق بعض ليشكل جدارا يمنع الريح والبرد ويحجب الحرم عن أعين الزوار, وتستعمله البادية مجلسا للرجال.
ويطلق عليها في الفصحى (العُنّة) بضم العين, ففي اللسان: والعُنَّة الحظيرة من الخشب أَو الشجر تجعل للإِبل والغنم تُحبَس فيها. وقال ثعلب: العُنَّة الحظيرة تكون على باب الرجل فيكون فيها إِبله وغنمه.
وقيل: العُنَّة الخيمةُ تُتَّخَذُ من أَغصان الشجر. (لمة الحي والميت): ضمة الحبيب, والمقصود (لمة من أفديه بالحي والميت من أحبابي).
يقول: إنه اكتسب خبرة وتجربة واسعة في الحياة, وذاق لذاتها وويلاتها.
وهذا الاستهلال اللطيف الحلو الظريف قدمه الشاعر ليكون دليلا مقنعا على فكرته التي عبر عنها في البيتين التاليين, وهي أن الدفء الحقيقي يكون في المشاعر لا في الثياب والأماكن.
والمقصود بالدفء الحقيقي هنا ما خالطه لذة, وعبارة (حدر النجوم) بصمة شاعرية تفتح الآفاق على جمال السماء في الليل, ولطف الجو, وعذوبة الهواء, ناهيك عما للنجوم من صداقة أزلية مع العشاق.
والمعنى مطروق متداول في الشعر النبطي, قال الشاعر في أبيات جميلة:
هبت هبوب شمال وبردها شيني
ما تدفي النار لو حنا شعلناها
ما يدفي إلا حضن مريوشة العيني
والى ظمينا شربنا من ثناياها
وجمال المقطوعة التي منها بيت السياحة متعدد لفظا ونظما ومعنى وصورا وإيحاء, ولعل أعظم مظاهر الجمال في الشعر يكمن في المقام الأول في (النظم) وهو الصياغة, وصياغة البيت وما بعده آسرة.
وإذا كان الشعر في أساسه موسيقا فإن موسيقاه لا تكون مؤثرة ما لم تأت رائعة النظم, سلسة على اللسان والروح, فروعة النظم هي جواز مرور الشعر إلى القلوب المختصة بتذوق الجمال, ورب معنى جميل أفسده نظم قبيح, ورب معنى هزيل رفعه نظم جميل, والنظم المقصود هنا هو بناء الجمل والتراكيب لا بناء الوزن.
و(صكة بقعا) أو (صكات بقعا) بالمعنى المشار إليه مثل دارج ذكره العبودي في معجم الأمثال العامية في نجد.
وله صيغة أخرى هي: يا مال صكة بقعا أو يا مال صكات بقعا, وقد راج هذا التعبير حتى شمل جميع أرجاء الجزيرة العربية, قال المرحوم علي القري ت 1415هـ:
هذي عنيزة ما نبيعه بالزهيد
وجدودنا من قبلنا عيّوا بها
حيثه على صكات بقعا ما تبيد
ولا ترف من الخصوم اجنوبها
وقال سعد بن جدلان:
واللي على صكات بقعا تقوّت
قدهي تشوف إن الثقيلة خفايف
وقال محمد بن فطيس:
مافيه داعي تتعب القلب يا زين
صكات بقعا سوت اللي عليها
وقال تركي الميزاني:
أنا إليا هبت ذعاذيع الأنسام
صدري على صكات بقعا شمالي
وقال محمد جارالله السهلي عن أصدقاء المصالح:
وإليا احتمت صكّات بقعا وامست علومك علوم
اتلوّي خششها وتجحد خوّتك وتدوسها
وقال شاعر يمني:
نكتم خوافينا ولا كن جتنا
صكات بقعا لا ولا غم وهموم
وقال محمد ابن حسن:
يا ما على صكات بقعا نخيته
وهو على صكات بقعا نخاني
ويرى الدكتور عبدالعزيز الشبل في مقالة تاريخية له بعنوان (كارثة بقعاء مقدمة لكارثة المليدا) أن «المثل في الأساس يشير إلى قصة غزو أهل القصيم لمنطقة بقعاء في جماد أول عام 1257هـ (يوليو 1841م) لمحاربة ابن رشيد، حيث انهزم فيها أهل القصيم هزيمة شنيعة وقتل كثير منهم في شدة الحر والعطش والبعد عن الأوطان، خاصة أهل عنيزة الذين قتل أميرهم يحيى السليم ورجال كثيرون وهم مشاة في أرض فلاة بعد أن هرب البعض بالإبل وتركهم رجال قبيلة عنزة الذين كانوا حلفاءهم في وجه ابن رشيد غير متوقعين ما سيحصل لمن ثبت وصبر منهم، وعلى رأس الذين بقوا وحدهم دون ركايب يحي السليم أمير عنيزة ومن معه ليكونوا ضحايا المذبحة». كما يرى أن المثل «اشتهر في القصيم في الماضي خاصة في عنيزة».
وأنه تجاوز مأساة بقعا ليشمل «جميع المصائب والشدائد خاصة سنوات القحط وشح الأمطار».