عبدالعزيز القاضي
قالوا من أنت بحربته قلت تدرون
إني كما حيران حمَّام منجاب
- محمد العبدالله القاضي
وهذا البيت جزء من حوار عاصف دار بين الشاعر وبين جماعة من أقاربه أتوا إليه عائدين ناصحين بعد أن برّح به العشق وأوقعه طريح الفراش، فقد طلبوا منه الكف عن التمادي في الغي بعدما اشتهر عشقه وشاع بين الناس. وقد ترجم الشاعر هذا الحوار العاصف في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
حل الفراق وبيّح الوجد مكنون
قلبٍ تعايوا في شطرين الأطباب
وقبل بيت السياحة أعلاه يسأله أقاربه وهم يعرفون الجواب:
قالوا علامك ناحل؟ قلت مطعون
قالوا بعق؟ قلت بحراب الأحباب
والعق هو الظلم والاعتداء، ثم سألوه كما هو واضح في بيت السياحة: بحربة مَن طُعنت؟ فأجابهم مجاريا لهم في التجاهل: (تدرون إني كما حيران حمَّام منجاب) أي لا أعلم من أصابني فأنا مثل ذلك الرجل صاحب قصة (حمَّام منجاب).
وحمَّام منجاب هذا حمَّام مشهور في بغداد في زمن الدولة العباسية، وله قصة طريفة وردت في عدد من كتب التراث، وممن أوردها العاملي في الكشكول (414-1)، فقد قيل إن بعض المترفين اُحتُضر، وكان كلما قيل له قل (لا إله إلا الله) يقول هذا البيت:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت
أين الطريق إلى حمَّام منجاب
وسبب ذلك أن امرأة عفيفة حسناء خرجت إلى حمَّام معروف بـ(حمَّام منجاب) فلم تعرف طريقه، وتعبت من المشي، فرأت رجلاً على باب داره فسألته عن الحمَّام فقال: هو هذا، وأشار إلى باب داره، فلما دخلت أغلق الباب عليها، فلما عرفت بمكره أظهرت له كمال الرغبة والسرور، ويقال إنها خلعت سواراً في يدها وأعطته إياه وقالت: اشتر لنا شيئاً من الطيب، وشيئاً من الطعام، وعجل بالعود إلينا. فلما خرج واثقاً بها وبرغبتها، خرجت وتخلصت منه، ولما رجع ووجدها قد خرجت وذهبت هام بها، فأكثر من ذكرها، وجعل يمشي ويردد: (يارب قائلة يوما وقد تعبت...) البيت.
ويقال إن جارية كانت تطل من طاق لما سمعته يقول هذا أجابته قائلة:
هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها
حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فازداد هيمانه بها، واشتد وجده عليها، ولم يزل كذلك حتى وافته المنية، وقيل له حينها: قل (لا إله إلا الله) فقال: أين الطريق إلى حمَّام منجاب؟. قلت: والتلفيق في قصة الجارية واضح.
لقد كان جواب القاضي لعواده عندما سألوه (قالوا من أنت بحربته؟) أي بحربة من طُعنت؟ إمعاناً في التمويه، ومسايرة لأسلوبهم الساخر المبطن، وبعد شد وجذب في هذه الحرب الباردة، أعلن لهم بكل مرارة وصراحة موقفه وقال في أبيات مؤثرة:
عرّضتكم بالله لا لي تعذلون
يا ناس كثر القول والنصح ما ثاب
يا ناس عنكم شاطن القلب مشطون
أنتم ترون الحال منتم بغيّاب
أنا بوادي التيه وأنتم تهرجون
بيني وبين هروجكم ستر وحجاب
كان إنكم ترضون باللي تعرفون
محيي العظام البالية رب الأرباب
والله ما أسمع هرجكم لو تلجّون
بالصوت يندب منكم الشيخ والشاب
إلا إن سمع فرعون ما قال هارون
أو يسمع الميت نبا صوت نحاب
أظن من وصل الدرك له يعذرون
كل الخلايق لو رمى عنه الأسلاب
.. إلخ