عبدالعزيز القاضي
الود ما له طاري مع هل له
أثر دوا طرد المودة زويّان
- عبدالله الحرير
وهذا البيت لشاعر الرس المعروف المرحوم عبدالله الحرير (1275 - 1363هـ) يطرح قضية تدعو إلى التأمل وهي استحالة الانشغال بالحب والبطن جائع, وعبر الشاعر عن الجوع بكلمة (زويّان) وهو تعبير متداول لهذا المعنى في نجد, قال العبودي في (كلمات قضت): «(زواه) الجوع: مسّه بشدة وعنف, يزويه, أي يبلغ به مبلغا من الضرر عظيما فهو زاويه, مصدره زَوِي بفتح الزاي وكسر الواو. ويسمون الجوع (زْويّان) بإسكان الزاي وتشديد الياء على صيغة التصغير مثل عْمَيّان تصغير عَميان, قال عبدالله الحرير من أهل الرس .. ثم أورد البيت أعلاه».
قلت: ثم تطور معنى هذه الكلمة فتجاوز الجوع إلى معان أخرى, كقولهم: فلان زواه العشق أي سيطر عليه وأضر به, وزوى فلان فلانا أي تفوق عليه وتجاوزه.
فالجوع إذن صارف عن الهوى, وهذه حقيقة بيولوجية يؤكدها قول المصطفى عليه الصلاة والسلام «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». فالصوم يكسر الشهوة, لأنه يُشغل بحاجة أعمق وهي الجوع.
ويصنف (الجوع) في الدرجة الأولى من (سُلم ماسلو) أي في الحاجات الفسيولوجية الضرورية للحياة أما (الحب) فيأتي تصنيفه في الدرجة الثالثة أي في الحاجات الاجتماعية. ولا يمكن حسب نظرية ماسلو التفكير أو الانشغال بإشباع حاجة نفسية لم تُشبع حاجة أخرى أعلى منها تصنيفا, فالجائع لا يمكن أن يفكر في الحب قبل أن يُشبع جوعه.
وقد ترجم هذا المعنى شاعر نبطي قديم أيضا لا أعرف اسمه, حيث يقول:
إلى امتلا بطني ذكرت أريش العين
ولا جعت مالي بالعماهيج حاجه
ويروونه على سبيل الطرافة والدعابة, ويرونه شاهدا على انتهازية هذا الشاعر وعدم جديته في ادعاء المحبة, وربما كان لصياغته الحلوة التي تفوح منها رائحة الهزل والسخرية, دور في هذا التصور, خصوصا أن كناية (امتلا بطني) بهذين اللفظين المفعمين بالواقعية, المعزولين عن خصوصية الإنسان العقلية والروحية, تشي بالأنانية المطلقة, وربط ذكر (أريش العين) وهو المحبوب بامتلاء البطن يفتح الخيال على إيحاءات متعددة, وحتما أن الصدق في الحب ليس واحدا منها. ويعزز هذا التفسير اختيار لفظ الجمع (العماهيج) وهن الفتيات الجميلات في الشطر الثاني, بدلا من المفرد.
لكن .. وعلى الرغم من هذا كله فإن هذا البيت وبيت السياحة أعلاه لم يتجاوزا الحقيقة, ولم يأتيا بخلافها فالجوع والحب لا يجتمعان في مقام واحد, فهما كالتنوين والإضافة كما يقول النحويون, قال الشاعر العربي:
كأني تنوينٌ وأنت إضافة
فأين تراني لا تحل مكانيا