ميسون أبو بكر
«ذات يوم سيجيء وقت الكتابة. أما الآن فهذا وقت الوداع. الوداع؛ آهٍ يا قاهرتي! أيتها المدينة التي ضمتني إلى صدرها الكبير وتبنّتني، التي منحتني شهادة الليسانس في الحقوق وبتقدير جيد جدا، وأعطتني مجموعتي القصصية الأولى، وساقتني إلى ليلة الحب الأولى، القاهرة التي تغص بالملايين، هل ستتذكر هذا الفتى الذي أعطاها خمس سنوات من عمره»
لا أدري لماذا وأنا أهمّ بالكتابة عن الذي غادرنا قبل أيام الكاتب الساخر والمسرحي الأستاذ علي سالم اقتطفت مقدمة مقالي هذا للاستثناء الدكتور غازي القصيبي رحمه الله من روايته «شقة الحرية»؟
هل القاهرة مربط الذاكرة.. حضن الذكريات... أم الوداع الذي غيب كلا الرائعين، أم الكتابة التي امتهناها فكانت ثمرة ما ورثناه من كليهما وما خلّفا وراءهما!
من منا لا يعرف «مدرسة المشاغبين» وكل الأثر والوهج الذي تركته المسرحية في عالم المسرح والكوميديا؟ ومن لم يقرأ مقالات علي سالم الساخرة ؟ أو يتابع أنّاته التي حوّلها إلى حروف تسعد من يقرأها.
علي سالم رحل عن عالمنا تاركاً إرثاً أدبياً كبيراً سواء جمعته دفتي كتاب، أو جسدته مسرحياته على خشبة المسرح او تلك المقالات التي كان يطل بها على قرائه بشكل شبه يومي.
رحل علي سالم في زمن داعش وقد نسي أن يكتب مقاله الأخير، وإني لأزمع أن أشياء الراحلين تؤلم أكثر من رحيلهم، لذلك تَرَكُوا فينا ذاكرة الوجع التي لا تكف عن النزيف والألم، فيها الكثير من الحب.. الكثير من الأدب والتي قد تكون كجرعات مسكّن لما يجتاح عالمنا العربي اليوم من نكسات وتشوهات تكاد تغير خارطة الكروموسومات البشرية لتحول الجنس البشري إلى جنس عدواني آخر قد يتقرض مستقبلا أو قد يصبح واقعا مفروضا.
تلك الروائع الأدبية التي تتنفس الحياة في أجناس فنية مختلفة ترى لو قرأها أو شاهدها واستمتع بها أبناؤنا؛ هل كانوا سيكونون عرضة للفكر الضال؟ أو لقمة سهلة بين أنياب التنظيمات الإرهابية والدواعش الذين جندوهم للفتك بأقرب البشر اليهم وعاثوا في الأرض فساداً!
هؤلاء الشباب الذين يعاقرون الإنترنت ويسبحون في الفضاء الإلكتروني الشائك، لو أنهم كانوا قراء لإبداعات أدبائنا أو جمهورا للمسرحيات والأعمال الفنية هل كانت للتنظيم الإرهابي داعش أن يجد سبيلا إلى تجنيدهم وبث سمومه إليهم.
يا ترى لو. سألنا شريحة من الشباب؛ من هو غازي القصيبي، أو علي سالم، أو محمود درويش أو حمزة شحاتة مثلا، هل نتوقع إحالة على سؤالنا أو بطريقة أخرى ما نسبة الاجابات الصحيحة المتوقعة؟ ربما سيشير قلة إلى معالي د. غازي الوزير أي إلى منصبه الوزاري وبظني ستبقى خانات معظم الإجابات فارغة في الوقت الذي نسمع مرتكبي الجرائم والمنضمين إلى داعش إلكترونيا يشيرون إلى رجل يدعي الخلافة ويطلق على نفسه؛ أبو بكر البغدادي!!
وسائل الإنترنت لم تكن سبيلا للثقافة والعلم والترفيه البريء وإنما كالنار في الهشيم انتشر عبرها غسيل أدمغة للشباب عبر أشخاص مجندين لهذا الأمر ومؤخرا ألعاب لأطفال تعلمهم الدموية والقتل وتقود هذا الطفل البريء الذي سرعان ما يقع في شراكهم إلى العنف والقتل وعالم الجريمة.
كيف ترانا توقف هذا المشهد الدموي ومسلسل الجرائم الذي تشكل فيه وسائل التواصل الاجتماعي المحرك الأساس؟! كما أصبحت في الآونة الأخيرة أيضا مصدرا للإشاعات وتناقل الأخبار الكاذبة ونشر الفوضى في المجتمع!
كيف نجح هؤلاء الدمويين عبر جنود متخفيين في الانترنت بالوصول إلى شريحة كبيرة من شبابنا ولم ينجح أدباؤنا ومبدعونا ومسرحيونا وشعراؤنا أن يستغلوا هذا الفضاء لنشر المحبة والجمال والفن والثقافة وتحقيق شعبية لهم؟
لماذا هذه الميول الإجرامية لدى فئة الشباب والأطفال الذين من المفروض أن يكونوا تربة صالحة للجمال والحياة والفن.
رحم الله من رحل وجعل من بقي شموعا تنير الدرب بالحب والأمل والحياة.
من آخر البحر
سأرقص على قرع نبضك
وأحلم بك كلما راودتني النوارس عن ذاكرتها
أو دعاني البحر لأغتسل به
وكلما فقد النهر ذاكرته
سأرمي له بقلبي ليهتدي إليك
من النوارس ساستعير ذاكرة البحر
فيستفيق الذين مضوا من سكرة الموج
وتعود المراكب التي ضلت دربها ذات غياب
وأخرج كالحوريات إذا ما اكتمل البدر