ميسون أبو بكر
كثيراً ما يطلق على الإعلام مهنة المتاعب، حيث يتطلّب من الإعلامي أو الصحافي الغور في صميم القضايا التي يواجهها وتقصِّي الحقائق واقتحام موقع الحدث، وتبنِّي قضايا، ثم إطلاع الرأي العام عليها بشفافية، والإعلامي الحقيقي هو الذي يحمل رسالة لا يتهاون في أدائها ويراعي الحرفية والمصداقية، وفوق كل ذلك يجعل وطنه هو السماء التي يحلق في أجوائها، ولا سماء بعد الوطن ولا خيانة باسم الحريات أو إثارة للفوضى وبث الفساد.
« trouble maker» أو أصحاب المشاكل، هذه عبارة كثيراً ما تطلق على الإعلاميين، وأعتبرها شخصياً مدحاً لا ذمًّا؛ إذ تعني حشرية الإعلامي في القضايا التي تهم مجتمعه، وعدم تجاوزه عن الأخطاء، بل لدى البعض حدس أكثر من غيرهم ورؤية أبعد وفكر أعمق، يمكنهم أن يكونوا مرآة صادقة لمجتمعهم ومحامين مميزين للقضايا العادلة.
الإعلامي ليس شخصاً متطفلاً ولا مجاملاً، ولا يتقصّد إثارة المشاكل كما يظن البعض ، لكنه تحرٍّ بشكل أو بآخر، قد يبغضه أولئك المتجاوزون للقانون الخارجون عنه، الذين من مصالحهم إخفاء الحقائق أو تزويرها .
وبين الجرأة المسؤولة والتعدّي خيط رفيع، وبين الصدق والإثارة فرق كبير، وبين إشاعة الفساد والطرح بموضوعية رؤية أخرى، فليس كل من نشر خبراً أو كتب مقالاً على لوحة فضاء إلكتروني مجهول هويته هو إعلامي، وقد أسهبت كثيراً فيما مضى في الحديث عن هذا الموضوع.
وأنا أكتب هذا المقال استحضر «مئة عام من العزلة» للروائي الراحل الفائز بنوبل جابرييل غارسيا ماركيز، وهو يسرد تحوله من دراسة الحقوق إلى العمل في الصحافة في جريدة الهيرالدو تحديداً، ورحلته الطويلة مع والدته لزيارته الأولى لقريته آراكاتاكا، بعد أن غادرها للمرة الأولى، وتأنيب والدته له طوال الرحلة لترك دراسته وعمله في الصحافة، ثم تأكيده لوالدته أن تقول لأبيه: إنّ الشيء الوحيد الذي يريده في الحياة هو أن يكون كاتباً وسوف يصير كذلك..
وقد استعان بجملة الجار الذي تحدث عن مهنة الكاتب الذي كان يرغب أن يعتنقها بدلاً من الطب، والذي قال لوالدته محاولاً إقناعها بهذه الجملة الذهبية: «الكتابة هي القوة الوحيدة القادرة على منازعة الحب امتيازاته وبخاصة الميل الفني، حيث هي أكثر الميول سرية وغموضاً، فالمرء يكرس له حياته كاملة دون أن يأمل منه شيئاً».
يذكرني ماركيز وهو يسرد سيرته الذاتية في هذا الكتاب، وهو الأديب المعروف، بجيل الرواد من المثقفين والأدباء السعوديين الذين نهضت بهم الصحافة في المملكة والذين كانوا على رأس أهم الصحف في البلاد، وقد أسهموا في وضع اللبنات الأولى للإعلام، وهم الذين بدأوا مشوارهم بجهود فردية في ظروف صعبة، ليكونوا الأساس الذي بنيت عليه الصحافة السعودية، مثل أحمد السباعي وطاهر زمخشري وأمين مدني وعبد الفتاح أبومدين.
أولئك لم يكونوا صانعي مشاكل كما يسمّى صاحب هذه المهنة اليوم، بل كانوا رواداً يشار لهم بالبنان، وقد نهضت الصحافة بفضلهم وبوهج الكلمة الأنيقة التي تنم عن ثقافة وروح أدبية نسجت منها الكلمة، حين كان إعلاماً واعياً مثقفاً، ذلك الذي تخرّج من مدرسته عشرات الصحافيين.
الإعلام اليوم بحاجة إلى عمالقة وأصحاب كلمة وحاملي رسالة، ينتسبون بحق لصاحبة الجلالة ، ويسهمون في رفع درجة الوعي للنهوض بمجتمع واعٍ يدرك ما حوله، هم جنود مجنّدون للحق لا يسكتون على الباطل ولا يخشون في الله لومة لائم.
من أول البحر لماركيز:
الحياة ليست ما يعيشه أحدنا
وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه