د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في زمنٍ انقضى كانوا يقولون إن البعدَ قرب؛ (سأطلبُ بعدَ الدار عنكم لتقربوا..) وهو معنىً جميلٌ يؤصله من أوجز فأجاد: «زر غِبًّا تزددْ حبَّا «، ويقابلُه في زمننا:» القربُ بُعد» ؛ إذ صرنا نساكنُ الأقاربَ والأباعدَ ومن نُحب ومن لا نحب ومن يعنينا أمرُه ومن يُصلينا جمرُه في جهازٍ صغيرٍ فنرى كلَّ الألوان والأعمار والسمات والقسمات، وربما وصلت بيننا «جلسات» افتراضيةٌ فبتنا نعرفُ عنهم ومنهم أكثر مما نعرفه عن مساكنينا في المجتمع الحقيقي، وقد نعبسُ في وجوه كلماتهم أو نسأم من تأمل شخوصهم أو نأنف من الالتقاء بهم في الحياة النابضةِ ثم نتصافح ونتصالح مع حروفهم لا إعجابًا بها بل لوجودنا في مداراتها إجبارًا أو مسايرة.
** لهذه البرمجيات دورُها في تكثيف الأغلفة المقنِّعة لرموز المجتمع المعتبرين وأفراده الاعتياديين؛ فلم تعد ممكنةً التفرقةُ بين الجهات الأصلية والفرعية أو بين الوجوه الحقيقية والمموهة، لكنها أعطت الناسَ «هنا وهناك» مدىً يمكن عبره قياسُ الشخوصِ وتقويمُ النصوصِ وقراءة العقول ودراسة النقول وتقديم صورةٍ شموليةٍ لما نحن فيه أو متجهون إليه.
** ولعلنا -بعد أعوامٍ من إدمانها وبخاصة من الفئات العمريةِ الشابة- قادرون على تقدير المسافات «المكانية والزمانية» الفاصلة والواصلة بيننا وبين قِيمنا وقيِّمِيها؛ فهل نحن سائرون نحو القمة أم متجهون نحو السفح؟.. وماهي الفوارق بين بُعد القرب وقرب البعد؟ وهل اختيارنا لمن نشاءُ معرفتَه والإفادةَ منه كما كنا زمن الكتاب أجدى أم حين صارت الخطوطُ تهدي وتهذي؛ فقد نجد علمًا يأزرنا نحو الذرى أو تجهيلاً يقعد بنا في القيعان؟ وماذا عن الخصوصيات المرتبطة بهذه الوسائط؟.. هل أتاحت فأباحت كلَّ ممنوع أم تجاوزت تنميط التابع والمتبوع؟.. وهل ندرك دلالاتِ المشاعيَّة السادرة والحائرة فيما نظننا نراه وهو ناءٍ ونعتقد نأيه وهو أقرب من الوريد؟.
** لا نفكر -هنا- بوسيطٍ فضائي واحدٍ أو أوحد؛ فالمقصودُ عمومُها، والتركيزُ على المصور فيها أكثر من المكتوب؛ فقد صرنا داخل بيوت الآخرين ووسط مخادعهم وبين أولادهم ووالدِيهم، ولم يعد مدمنوها يعرفون الأسرار والأسوار كما لا يؤمنون بالحصار والاختصار، وسيبدو «تويتر» والـ»فيسبوك» مُوصلين تقليديبن أمام الـ»يو» والـ»سناب» والـ»إنستغرام» والـ»باث» وما هو قائم اليوم وما سيجيءُ غداً.
** صار وسيطا الأمس الأكبران «تويتر والفيسبوك» قديمين، ولا جدل بتراجع تأثيرِهما بعدما أصبحا للتنفيسِ والتعارف، والأمنيون هم من يدافع عن بقائهما ليقينهم بتضاؤل دورهما، وستتقادم الأخرى كذلك ليبقى الرهانُ على مردود القرب حتى الالتصاق والبعد حتى التدابر في وسائط لا مؤشراتٍ لمُكثها أو نَكثها، وسيبقى الجيلان الورقيُّ والرقميُّ متزاحمين على مكانٍ يخلقه القربُ الصادق؛ أجاء عبر كتاب عتيق أم شبكةٍ حديثة، وسواءٌ اعتمره شيخٌ تراثي أم فتىً فضائي، ففي الجُدُد من يغبط القدماء وفي المعتَّقين من يأسفُ على أزمنة الشقاء.
** السرابُ لا يدنو.