د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لو شاء أحدٌ أن يعطيَ هذه المرحلة اسمًا ثقافيًّا لجاز وسمُها بمرحلة الجدل؛ فالكلُّ يجادل الكل، والتنظير يملأ الفضاء، والناتج إرهاقٌ ذهني ولبسٌ موضوعي ووقوفٌ في محطة العابرين.
** نُصمُّ أذانَنا ونُعتم أعيننا ونغلق ابوابَنا لكن روائح الجدليين تنفذ من مسامات الفراغ والضياع؛ حيث لا صوت يعلو أو حتى يتعادلُ مع ضجيجهم، وقد يجوز هنا استعارة رؤية «كارنيجي» في أن أيسر سبيلٍ للخروج من الجدل عدمُ الدخول فيه.
**دخلنا مع الأسف لأن الأغلبية أقحمت نفسها فيه؛ فابتُليت بدُوارِه وتاهت في مداره، ولم تعدْ معادلة «الدخول والخروج» ذاتَ شأنٍ إلا لمن ألهمه الله رؤيةً نفذت إلى ما وراء هذه الحقبة الجدليةِ الموجعة فآثر الصمتَ ولو عانى من الفرجة على التناطحِ المقيت.
** ولنأخذ معضلةَ «التكفير» أنموذجًا على التيهِ بوصفها قضيةً دينيةً وفكريةً ومجتمعيةً؛ فمن اليسير ِلجمُها بجدليات التنديد والتهديد والتنابز واستقراء التأريخ واللمزِ بحكاياتهِ ونقولاته ولكن الأمر سيمتد ولن يرتد وسيزداد التكفيريون بزيادة مناوئيهم؛ فما أفرزته القرونُ من البغضاء لن تمحوَه مقالات ومثاليات.
** الأمر متصلٌ بقابلية التعايش بين الأطياف اعتمادًا على مشتركات الأرض والجوار والمصير الدنيوي؛ فليكن جارك كافرًا في نظرك مثلما أنت كافرٌ عنده حين تتفقان على تأصيل وتفعيل القواسم المشتركة وتخليص عقول النشء الذين لم يغرقوا في أمواج الجدل.
** أكثر من هذا؛ فنحن «كفارٌ» في معتقد متديني «يهود والنصارى»، وكتبُهم « المقدسةُ» ملأى بعبارات التكفير الصريحة للسائرين على غير دربهم، كما هم كفار لدى معظم مدارسنا الدينية، ولكننا لا نحترب معهم اليوم بسبب الكفر والإيمان؛ فقد اكتفينا بمحنة الحروب الصليبيةُ التي أخذت بعدًا دينيًّا إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والجيو- سياسية وكذا محاكم التفتيش الإرهابية، حيث إرهابُ هذا الزمن نزهةً مقابلها.
** من العبث محاولة إقناع المكفّرين أن يعطوا صكوك الغفران لمن يتهمونهم بالخروج عن الملة؛ سواءٌ أكانوا مسلمين أم غير مسلمين؛ فلماذا نُضيع أوقاتنا في جدلياتٍ زائغةٍ؛ ولأكن ما شئتُ ولتكن ما تشاء، ولنعمل معًا لعمارة الأرض، ولنتحد ضد من يعتنقون مذاهب التفجير دون أن يصدَّنا من يرفعون رايات التكفير.
** لن نختلف حول ضرورةِ قمع، بل استئصال من يعتدُون بأيديهم بله أسلحتهم كما تفعل التنظيمات المتطرفة، لكننا نتمنى عدم استعادة «الدفاتر» القديمة والاستشهادِ منها بتكفير مذهبٍ أو طائفة، وتعزيزَ مبدأَ استثناء المعيَّن؛ فمن كفَّر يومًا لن يكفر دومًا، ولو عاد الزمن ببعض من تُتناقلُ أفكارهم «التكفيرية» لربما تبرأوا منها وفقًا لمرحلية التفكير التي تحكمُ الآراء والأهواء والأمكنة والأزمنة والسياسات والأدلجات، وبعدها سنعمل ونتعامل مع بعضنا تاركين لله - جلَّ شأنه - أمر حسابنا؛ فهو الأعلمُ والأحكمُ وهو العفوُّ الأكرم.
** الجدل الفارغُ خلل.