د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** للماغوط - البوهيميِّ كما لا شبيه - تعبيراتٌ أخاذةٌ بسخريتها ومباشرتها وإبداعها تتواءمُ مع طبيعته المتمردة مثل كثيرٍ من أشقياءِ الفن الذين نضَوا عن أقلامهم أقنعةَ التخفي؛ فكما يحيَوْن يحكُون، ولا شأن لهم - بعد ذلك - بمن يرى غيرَ ما يرون.
** ناقش مرةً مرتزقي الكتبةِ الذين يهيمون في الأودية التي تهيئُ لهم الكَلَأَ فيمدحون ويقدحون وَفقًا للأعطيات، ولا يعنيهم إن صادموا مبادئَهم، وافترض نفسه أحدهم فبرر ازدواجيته بقوله: «فمي يساريٌّ ومعدتي يمينية»؛ فلخص الموقفَ المضادَّ للسلوك بتنازعِ المعتقد «الفم» والمصلحة «المعدة»، ولو استبدل بالفم الرأسَ لكان أبلغ، وفي الحالين تنتصر المصالحُ عند الأغلبيةِ المثقفةِ فتتيه عنوانًا وإن أشرقت بيانا.
** علمونا أن السياسة مصالح متغيرةٌ فصمتنْا وإن لم نقتنع، لكننا لا نستطيع الصمتَ أمام ذي فكرٍ يبدل أقلامه تبعًا لأهواء الساسةِ استزادةً في رصيده «الماديِّ والمعنويِّ» ثم لا يجد في وجهه حرجًا أن يتظاهرَ بالمبدئيةِ التي لا تعرف القُلَّبَ ولا التقلب.
** عبث اليمينيون واليساريون فعاثوا، وتصدر الصحويون والليبراليون فسيطروا، وسعى الحزبيون فتصدروا، وآذنت مراحل تجديد الوعي العربي منذ خمسينيات القرن العشرين بأفول الأدلجات وتبدل السياسات وتنقل المنظرين والنظريات، ووحده الإنسانُ البسيط الذي ظلَّ في مكانه ينتظرُ صوتًا أدمنه وصورةً ازدهى بها ورمزًا أخلص له، ولم يصدق أن الصفقات تتجاوز تجارة الدنانير إلى الاتجار بالجماهير.
** وحين نتجاوز التأصيل إلى التحليل فقد مثلت مجلتا «الحوادث» و»الأسبوع العربي» في زمن «اللوزي وأبو عضل» مدرستين مهمتين في التحليل السياسيِّ الصحفي بعد انهيار مدرسة «الأهرام»، وركزتا على المعلومات الخاصة التي اتكأَ عليها «هيكل» قبلهم بحكم قربهم من مصادر صناعة الأخبار، وكنا نرى «الأسبوع» أكثر مصداقيةً لنأيها عن الولاء المباشر لبعض الزعامات التقليدية، لكننا لا نجد اليوم وسائط مقنعةً كما الأمس لاعتماد بعضها على أسماءٍ مستهلكةٍ، وأخرى لا تستطيعُ الانفكاك من الحزبية، وثالثةٍ مرتهنةٍ لمن يدفع أو يقمع، وقلَّ سواها.
** لا عجب، بعدُ، إن تساقطت النخبُ «التأصيليةُ والتحليلية» أو أُسقطت، وهو ما نأسف له؛ إذ لدينا رموز ظلُّوا نائين عن الاستقطابات الداخلية والخارجية فهُمِّشوا و»خلف - ببُعدهم - خلفٌ أضاعوا» الهُويةَ وبدلوا التبعية فاختلطت الألوانُ الأساسُ بالألوان الثانوية والفرعية.
** والمخرجُ من أزمةِ الأدلجةِ والجماهيرِ تواصل العزف - وإن طال فأملَّ - ضدَّ «الهوائيين» النفعيين المرتبطين بالمسافةِ الواصلة بين «الفم والمعدة» والفاصلة بين القلب والضمير، ولا عزاءَ للعقول في زمن «الفلول».
** والمخرج الأكثر فاعليةً وحسمًا أن يُستفتى الجماهيرُ حول اقتناعاتهم لا أن يُصوَّتَ دونهم ويُقررَ بالنيابة عنهم، وحينها سيرى القَبليُّ والجهويُّ والحزبيُّ والطائفيُّ مواقعَهم من الإعراب؛ فالأمة تنادي المنتمين لا المرتمين.
** العنوانُ هدف.