فُجِعْت كثيراً حين أرسل لي صديق عزيز يعمل في التربية والتعليم مقطع فيديو لمدة دقيقتين و24 ثانية. هذا المقطع يصور مجموعة من طلبة مدرسة ابتدائية وهم «ينتقمون» من الدراسة والتعليم، وذلك بتمزيق الكتب بطريقة بربرية ورميها ودهسها في الشارع العام قبالة المدرسة (ويبدو أن المدرسة في حي النظيم في مدينة الرياض، ففي المقطع إشارة إلى ذلك).
لقد خنقتني العبرة وأنا أشاهد هذا المنظر الهمجي، وهو يصدر من «أطفال أبرياء»، نعم أبرياء فكل أطفال الدنيا أبرياء، ونحن الكبار دائماً الجناة، فنحن الذين أوصلنا لهم هذا السلوك الهمجي وحرمناهم من التمدن والتحضر فكراً ووعياً وتصرفاً! أما لماذا حرمناهم ففي المسألة تفصيل لا مجال للدخول فيه الآن في هذا المقال المختصر.
مقطع 144 ثانية مأساوي بامتياز، ويقطع القلوب ويوجع العقول والأرواح، ويجب أن يكون سبباً لأن نصحو من التوهم بأننا نتوفر على استراتيجية متماسكة لتطوير التعليم العام في بلدنا، مع تقديري لكل الجهود المخلصة التي بذلت. ليس هذا المقطع وحده هو الذي يجعلني أقرر نتيجة خطيرة كهذه، إذ لا يكاد يمر يوم إلا ونشاهد مقاطع تنم عن تردٍ كبير في التعليم العام في مسارات عديدة، ولكن هذا المقطع بالذات أعده بمثابة «القشة التي قصمت ظهر توهمنا بأن هناك تطويراً مؤسسياً من شأنه جعل التعليم رافعة للتحضر الحقيقي في المجتمع السعودي».
لست متشائماً وليس من طبعي التشاؤم أبداً، ولكني لا أحب أن أكون ساذجاً، فالتفاؤل لا يكون إلا في سياقات تدفع على حمله وتبنيه. كيف نتفاءل ببرامج تطوير تعليمنا العام ونحن نشاهد «جرمنا التربوي» يتجسد في جنوح أطفال طاهرين وهم يلوثون أنفسهم بتمزيق قدسية العلم من خلال تقطيع الكتب ودوسها بالأقدام في وحل الشارع ورمي الأوراق الممزقة على السيارات المارة والتحرش بها في وضح النهار، مع رفع أصواتهم بهتافات تنبئ عن اتجاهاتهم حيال التعليم والدراسة (بالنص من المقطع): «يلعن أبو الدراسة»، «وناسة خلصنا من الدراسة» «ما عندنا اختبارات».. ونحوها مما لم أستطع التقاطه من جراء تداخل أصوات الداهسين للكتب من الأطفال «المتحررين من إسار تربيتنا وأسوار تعليمنا»! ترى ما الذي نفعله بأطفالنا وبمستقبلنا؟
أنا أدرك أن البعض سيقول بأنك مبالغ جداً وأن الأمر لا يستحق كل هذا «الألم» أو ربما يرونه «صراخاً». أدرك بأن البعض سيذهب إلى ذلك الاتجاه، وهذا رأيهم وأنا أحترمه، ولكن هذا هو رأيي، مع اعترافي ومعرفتي بأن هناك ممارسات تعليمية وتربوية ومدارس مميزة جداً، ولكني أحكي عن المنظومة العامة. كما أدرك في الوقت ذاته أن البعض سيتجه نحو معالجة جزئية للمشكلة ليقول لنا مثلاً:
أين هي إدارة المدرسة، لماذا غابت والواقعة حدثت أمام المدرسة في الصباح وبعد خروج الطلبة مباشرة كما يبدو؟ لماذا لا يتم التحقيق مع إدارة المدرسة عن مسببات ذلك؟ ونحو ذلك من الأسئلة المهمة ولكنها تأخذنا إلى التفكير الجزئي الذي يفتت التحليل ويجعلنا نقصر عن بلوغ النتائج الكلية والاستنتاجات المعمقة. القضية أعقد من هذا بكثير، إذ السؤال الأخطر: لماذا تحتوي أصلاً عقول هؤلاء الأبناء الصغار على هذا اللون من الاتجاهات السلبية جداً حيال الدراسة والمدرسة؟
قد يقول البعض إن تلك الحادثة حصلت في حي قد لا يتوافر على «وعي فكري مجتمعي» بحدوده الدنيا، من جراء طبيعة التركيبة السكانية ونقص التعليم والوعي لدى الكثير من الأسر. وهنا نبادر بالقول: وأين دور التعليم في غرس مثل هذا الوعي، فالأحياء الأخرى التي تتوافر على معدلات أعلى من وعي الأسر لا يحتاج أبناؤها إلى المدرسة لكي يعاونوهم على تكريس الوعي بحدوده الدنيا.
ولذا فإننا نقول بأنه على العكس تماماً، فكون المقطع حصل في مثل هذا الحي، فإنه يعكس بدرجة أعلى من المصداقية درجة نجاح التعليم في إكساب الطلبة مقادير كافية من الوعي والسلوك المتحضر.
نحن لسنا بحاجة إلى نهج ردود الأفعال المؤقتة، بل يتوجب علينا أن نتبنى النهج الريادي المستلزم للمكاشفة التامة والتشخيص الدقيق حول الوضع الراهن للتعليم العام مع استخلاص الدروس المستفادة من التجارب التعليمية والتربوية الناجحة والعمل على إدخال إصلاحات بنيوية هيكلية في وزارة التربية والتعليم ذاتها دون إبطاء، ووضع رؤية استراتيجية للتعليم العام ورسالة واضحة وملهمة مع منظومة قيم مؤسسية يلتزم بها كافة العاملين بالقطاع التعليمي، على أن تترجم تلك المكونات إلى أهداف ومبادرات استراتيجية محددة مربوطة بمؤشرات أداء دقيقة ومقاسة. كما أننا بحاجة ماسة إلى وضع ميثاق شرف للمهنة يتضمن البعد الأخلاقي والمهني في الممارسة التعليمية والتربوية؛ مع ضرورة إقرار حزمة من المكافآت المشجعة للأداء المرتفع والسلوك الابتكاري والقيادي المميز، يقابلها عقوبات تردع الأداء الرديء والسلوكيات الرديئة في مختلف مجالات العمل التعليمي والتربوي.