م. خالد إبراهيم الحجي
إن المعلومات اليوم أصبحت متوافرة في كل زمان ومكان، أو كما يسمى (كلية الوجود)، وفي حالة ازدياد مستمر ونمو مطرد أضعافاً مضاعفة. والمعلومات اليوم يمكن أن تجدها في أغلب الأحيان مجاناً، أو بدون ثمنٍ يذكر.
وما تعرفه من معلومات أو تتعلمه اليوم ليس بالضرورة أن يمنحك ميزة تنافسية على الآخرين؛ لأن العالم اليوم لم يعد يعنيه أو يهمه ماذا تعلم أو ما تعلمته وإنما الذي يهم العالم اليوم هو ماذا تستطيع أن تفعله أو تقدمه أو تنتجه بما تعلمه أو تعلمته. والتعلم بالطريقة التقليدية التي تعتمد على الحفظ والتخزين، مثل: حفظ تواريخ المعارك والحروب، أو حفظ أسماء عواصم دول العالم، أو حفظ أسماء الأجرام السماوية، أو حفظ ترتيب العناصر الكيميائية في الجدول الدوري، وحفظ وتخزين المعلومات لتفريغها عند الاختبارات بهدف الحصول على أعلى الدرجات والشهادات.. طريقة تجعل طالب العلم يمتص المعلومات لمدة محدودة فقط؛ لذلك نجد أن ثقافة الابتكار والإبداع لا وجود لها على مختلف مستويات التعليم، وغيابها في ثقافة المجتمع، ونجد أن ثقافة العمل الوظيفي هي التي يحملها طلاب العلم؛ لأنها السائدة في المجتمع. ولأننا نعيش في عصر العولمة، والتقدم والتطور في العلوم التطبيقية والتقنية في تسارع شديد، وتحتاج إلى قوى عاملة على كفاءة عالية ومهارة فائقة ومنافسة مستمرة؛ لذا يجب أن يكون طالب العلم على قدر مستوى المنافسة العالمية، وهذا يتطلب منه وهو في مقتبل العمر الإرادة القوية، وإتقان المهارات الفائقة الآتية: (1) حب الاستطلاع واستكشاف المجهول والخيال العلمي الواسع. (2) القدرة على طرح الأسئلة العملية ومحاولة الوصول إلى الإجابات الصحيحة لها لاستكمال استكشاف جوانب الموضوع. (3) الاستقراء والتفكير العلمي والتحليل النقدي والاستنباط المنطقي. (4) خفة الحركة والنشاط والتفاني في العمل، والقدرة على التكيف مع الجماعة والعمل بروح الفريق الواحد، والتعاون المشترك مع شبكات العمل المختلفة بشكل مباشر، أو من خلال قنوات التواصل المختلفة. (5) التميز بصفة القيادة المؤثرة، والمبادرة إلى تحويل الحلول النظرية إلى تطبيقات عملية من خلال قنوات ريادة الأعمال. وقد أثبتت الدراسات الميدانية أنه توجد علاقة مباشرة بين مهارات طلاب العلم وطبيعة الاقتصاد في البلد. والعلاقة نجدها مذهلة بين الثقافة السائدة في المجتمع وشكل الاقتصاد السائد فيه. فإذا كانت الثقافة السائدة طبيعتها تنحصر في الحفظ والتخزين واستهلاك المعلومات وتكرارها وتناقلها وإعادة تدويرها بين أفراد المجتمع فكذلك طبيعة الاقتصاد السائدة في المجتمع تنحصر في الاستهلاك وإعادة التدوير. وهذا التشابه المذهل يؤدي إلىنتيجة غريبة، خلاصتها أن ثقافة المجتمع الذي يعتمد على الحفظ والتخزين تتناقض تناقضاً شديداً مع الثقافة العلمية التي تنتج المبتكرين والمبدعين؛ لأن مخرجات التعليم تؤثر تأثيراً مباشراً في تشكيل الاقتصاد الوطني، كما تلعب دوراً رئيسياً في الانتقال بالاقتصاد من الاستهلاك والتدوير إلى اقتصاد الابتكار والإبداع؛ لذا فإن انعدام الابتكارات وغياب الإبداعات أو ضآلتهما في ثقافة المجتمع الاستهلاكي تعود إلى الأسباب الآتية:
أولاً: التعليم التقليدي الذي يعتمد على الحفظ والتلقين، ويؤصل لثقافة الاستهلاك والتدوير وإعادة التدوير المناقضة لثقافة الابتكار والإبداع؛ لأنه يعتمد في الدرجة الأولى على امتصاص طالب العلم للمعلومات وتخزينها وحفظها، ثم استهلاكها وتدويرها، بينما التعليم الحديث يؤصل لثقافة الابتكار والإبداع التي تعتمد على خلق الأفكار الجديدة.
ثانياً: تركيز طالب العلم على الإنجاز الشخصي: يصرف طالب العلم معظم وقته في امتصاص المعلومات لتكوين محفظة من المعلومات، تؤهله للحصول على أعلى الدرجات وأفضل الشهادات العلمية في المجتمع. وهذا يخالف الابتكار والإبداع الذي يعتمد على العمل الجماعي.
ثالثاً: خوف طالب العلم من مخاطر النقد اللاذع: سرعة المعاقبة بالانتقاد والتجريح والتشهير بالمخطئ في المجتمع؛ ولذلك أصبح الهم الأكبر لطالب العلم ينحصر في معرفة كيفية إرضاء الاتجاه العام في المجتمع، الذي يتصف بمعايير فضفاضة قابلة للتفسيرات والتأويلات التي ترسم الخطوط الحمراء والمحظورات وأسقف الممنوعات التي لا يكتشفها المخطئ إلا بعد فوات الأوان. ومن هنا تأصلت في شخصية أفراد المجتمع ثقافة الامتثال لمعايير المجتمع من العادات والتقاليد والخوف من مخاطر النقد؛ لأن الابتكار والإبداع يعتمدان على التعلم والمجازفة بواسطة تكرار المحاولات والأخطاء، كما أن الابتكار والإبداع يتطلبان تخطي الحدود الصارمة واستكشاف المشاكل وحلولها.
رابعاً: غياب النقد الهادف والبناء للمجتمع: المبالغة الشديدة في تدوير وإعادة تدوير الشعارات المثالية والمعلومات التاريخية بين أرجاء المجتمع التي تأخذ الوعي العام في المجتمع إلى عالم افتراضي جميل بعيد كل البعد عن الواقع؛ وبالتالي لا يدرك المجتمع معوقات ثقافة الابتكار والإبداع والحاجة الملحة إلى بذل الجهود والمساعي الملموسة للتغلب على تلك المعوقات للتحول إلى مجتمع معرفي يحركه الابتكار والإبداع. وتُعد ثقافة الابتكار والإبداع عنصرًا مهمًا للغاية لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها الدول المستهلكة. ولعل خطورة الوضع المتدني الراهن الذي تعاني منه أمتنا الآن المتمثل في حاجتنا إلى الدول المتقدمة، واعتمادنا على عقول أبنائها ومنتجاتها، هو بسبب حاجتنا الماسة والضرورية لوجود أفكار وحلول جديدة للخروج من أزماتنا بأنفسنا، بما يحافظ على ثوابت الأمة في المقام الأول، ويخدم مصالح الأجيال القادمة. فمن الطبيعي أو المقبول أن نحتاج إلى الآخرين عندما يكون الآخرون في حاجة إلينا أيضاً، فيحدث التعاون والتكامل المُجدي بيننا وبينهم، لكن واقعنا منذ فترة طويلة حتى الآن ليس التعاون المنشود بقدر ما هو الاعتماد على الآخرين، والحاجة إلى أن نأكل ونشرب ونركب وسائل مواصلات ونستخدم وسائل اتصال.. و..و.. إلخ! إن تنمية ثقافة الابتكار والإبداع في المجتمع مسؤولية أصحاب البصيرة القادرين على تأسيس مستوى عالٍ من التحدي، الذي يدفع طلاب العلم إلى بذل أقصى درجات الاجتهاد في سبيل تحقيق مستوى التحدي المطلوب وتخطيه؛ لأنه بدون التحدي لن ينطلق الفكر من عقاله نحو الابتكار والإبداع. ومن أمثلة مستوى التحدي: إعلان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق جون كنيدي إرسال رجل للهبوط على القمر وإعادته سالماً إلى الأرض خلال عقد من الزمان (عشر سنوات). ولتحقيق التحدي المطلوب فتح أبواب الإبداع على مصراعيها في مختلف المجالات، مثل: أجهزة المراقبة الطبية، وأجهزة الاتصال والتراسل، والإلكترونيات، وغيرها من الابتكارات والتطبيقات التي أنتجها مشروع إنزال رجل على القمر. والتحدي يجب تحقيقه خلال مدة زمنية محددة مثل تصنيع السيارات أو الغواصات أو الطائرات، أو إطلاق أقمار صناعية، أو إقامة مفاعلات ذرية سلمية بقدرات وإمكانات ذاتية وأيد عاملة وطنية خلال عشر أو عشرين سنة قادمة؛ وبالتالي سيعمل هذا الهدف على فتح أبواب الإبداع على مصراعيها في مختلف المجلات التي ستساعد في تحقيق الهدف المرسوم. ويجب أن يكون مستوى التحدي غاية في التقدم، وإن بدا مستحيلاً اليوم سيدفع الابتكار والإبداع العلمي لتحقيقه غداً. وتأسيس مستويات التحدي خاصية تبرز واضحة في الدول المتقدمة التي ترعى الابتكار والإبداع، وتنعدم في الدول النامية. وتأسيس التحديات العلمية والتقنية يتطلب التشجيع والرعاية من المجتمع والدولة، ولا يمكن تحقيقه بين عشية وضحاها، وإنما يحتاج التأسيس إلى بيئة تشجع على التفكير بطرق مبتكرة تختلف عن السائد المألوف. وثقافة الابتكار والإبداع عملية تصعب على المجتمع الاستهلاكي الذي يقوم التعليم فيه على أسلوب التلقين والتحفيظ، ويفتقر إلى مهارات التحليل والنقد والتقييم، وينعدم بين أفراده الشعور العام بالحاجة الملحة للابتكار والإبداع.
الخلاصة:
إن تحويل المجتمع من استهلاكي، ثقافته تعتمد على تدوير وإعادة تدوير المثاليات والمعلومات، إلى مجتمع معرفي، ثقافته تؤصل الابتكار والإبداع، مسؤولية أصحاب البصيرة القادرين على بث روح الإلهام في نفوس طلاب العلم لبذل أقصى درجات الاجتهاد والتحدي في الابتكار والإبداع.