م. خالد إبراهيم الحجي
إن جميع الدول الإسلامية تسعى إلى تطوير نظام التعليم فيها لعدة أسباب: الأول: هو أن الدين الإسلامي يدعو أتباعه إلى النظر والتفكر والتأمل والتدبر والإبداع. والسبب الثاني: تعليم الأبناء ليأخذوا مكانهم مستقبلاً في القرن الواحد والعشرين. والسبب الثالث:
السعي للمحافظة على هوية الأبناء خلال اندماجهم في عصر العولمة، وعلى الرغم من أن البعض من خبراء التعليم يرى أن الحفظ عن ظهر قلبٍ ضرورةٌ لا يمكن الاستغناء عنها في حالاتٍ معينةٍ وفي مرحلةٍ معينةٍ من حياة الطالب إلا أن هناك سؤالاً يطرح نفسه بقوة والسؤال هو هل يمكن للمسلمين أن يأخذوا مكانهم اللائق بهم بين الأمم مع المحافظة على الهوية الإسلامية في عصر العولمة عندما يكون التعليم في الدول الإسلامية يعتمد على طريقة التلقين والتحفيظ عن ظهر قلبٍ؟ أو بمعنى آخر أن التعليم التقليدي يعتمد على تخزين المعلومات في ذاكرة الطالب بواسطة التكرار والحِفظ والتسميع ومن خلال الدراسات والأبحاث تبين أن الحفظ عن ظهر قلبٍ يُعطل عند الأطفال نزعة البحث وحب الاستطلاع واكتشاف المجهول فضلاً عن التحليل والاستنباط والاستنتاج، لأننا نعيش اليوم في عصر انفجار المعلومات التي أصبحت متاحةً للجميع حيث يمكن للمتعلمين الحصول عليها بسهولةٍ ويسر بوسائل التكنولوجيا المختلفة، فلم يعد هناك حاجةً لأن يحفظ الطالب المعلومات المدرسية عن ظهر قلبٍ، لأن الهدف من التعليم الحديث هو أن ينجح الطالب في إيجاد الحلول للمسائل وعلاج المشكلات التي تواجهه وليس تحفيظه المعلومات وتخزينها في عقله، لذا يجب أن يتاح للطالب في المدرسة سهولة الوصول إلى المعلومات وسرعتها أو توفيرها له دون مطالبته بحفظها أو استظهارها، والاختبارات المدرسية يجب أنْ تَقيس مدى فهم الطالب وليس قوة حفظه فقط. وتَلقَى طريقة التلقين والتحفيظ عن ظهر قلبٍ انتقادات شديدة من بعض خبراء التعليم. الانتقاد الأول: أنها تُعَوّدُ الطلاب على مجرد الترديد الصوتي وليس بالضرورة فهم المعنى. الثاني: أن الحفظ عن ظهر قلبٍ لا يشجع الطلاب على مناقشة وتحليل المعلومات التي يتعلمونها. الثالث: إن بعض خبراء التعليم يرون أن اقتصار التعليم حصراً على الحفظ والتلقين يؤسس للفكر الأحادي الذي يرفض الرأي الآخر ويعتبر أن وجهة نظره الوحيدة هي المقبولة والتي يمكن أن تكون صحيحة لا تحتمل الخطأ ولا تقبل الشك أو النقد ويرفض ما عداها.
في المقابل يرى غالبية من خبراء التعليم أن مزايا التعلم بطريقة التفهيم والتأمل والتدبر والتحليل والاستنتاج تفوق بمراحل عديدة طريقة التعلم بالحفظ والتلقين ومن هذه المزايا أولاً: أنها تنمي الرؤى والتوليفات الإبداعية وتطورها وتحث على الاستنتاج والإنتاج. ثانياً: تُعلم الطلبة رؤية المعاني والآثار والنتائج وإدراكها أبعد من أساس الفكرة أو المفهوم. ثالثا: تُعلم الطلبة تقبل الرأي الآخر لأنه يوجد أكثر من احتمال فهناك الرأي الصواب الذي يحتمل الخطأ، وهناك الرأي الخطأ الذي يحتمل الصواب. رابعاً: تُنمي القدرة على رؤية الروابط بين العلوم والمعارف التي تعلمها الطلبة في المدرسة والعالم الخارجي. خامساً: كما تُنمي لدى الطلبة القدرة على المقارنات الصحيحة وتحديد أوجه التشابه والاختلاف والآثار المترتبة على الأفكار، وتجعلهم يدركون الفرق بين المعنى الحقيقي والحرفي للأفكار وبين المعنى المجازي للتفسير.
التعليم اليوم يجب أن يمنح خياراتٍ متعددةً ليأخذ في الاعتبار قدرات الطلبة المختلفة (الفروق الفردية) نظراً لأن الطلبة ثلاثة أنواعٍ: النوع الأول: يجيد الحفظ. والنوع الثاني: يجيد التدبر. والنوع الثالث: يجمع بين النوعين السابقين أي يجيد الحفظ والتدبر، ويمكن تطبيق مبدأ الخيارات المختلفة ابتداءً في حصص القرآن الكريم بأن يتم جعلها حصتين منفصلتين تعملان جنباً إلى جنبٍ، إحداهما لتحفيظ القرآن والأخرى لتدبر آياته لتناسب قدرات الطلبة المتنوعة أو المختلفة، فحصة الحفظ تكون لمن لديهم ذاكرة حافظة قوية تجيد الحفظ والتخزين، وحصة التدبر لمن لديهم قدرة على التفكر والتأمل والتدبر، والنوع الثالث: الذي لديه القدرة على الحفظ والتدبر معاً يكون لهم حرية الاختيار في المشاركة في الحصتين، ومن خلال هذه الخيارات سيتوفر للطلبة المميزات التالية: الميزة الأولى: توفير المناخ الملائم لاكتشاف أنفسهم في مرحلةٍ عمريةٍ مبكرةٍ عن طريق التعبير عن خواطرهم واستخراج بنات أفكارهم. الميزة الثانية: سيتمكن المعلم المشرف من اكتشاف الميول والاتجاهات الفكرية للطلبة وتصحيح الأفكار المنحرفة أو الخاطئة عندهم. الميزة الثالثة: سيصبح لدى الطلبة الحصانة الكافية من خطر الاستدراج من قبل أصحاب الفكر المنحرف الذين يغررون بالشباب المسلم، وهذه الخيارات المتاحة للطلبة تتطلب بدورها معلمين متميزين يتصفون بقدرات متنوعة ومختلفة، فلا يمكن أن يكون المعلم المتخصص في تحفيظ القرآن مناسباً لدروس التفهيم والتأمل والتدبر لأنها تتطلب معلمين لديهم القدرة العلمية على فهم القرآن فهماً صحيحاً والقدرة على تدبره واستخراج كنوزه، كما تتطلب معلمين ذوي مهارة في خلق المناخ المناسب داخل الفصل لطلبة التأمل والتدبر ليبوحوا ببنات أفكارهم، ويعبروا عن فهمهم لمعاني القرآن الكريم، وإتاحة الفرصة لهم لمناقشة أفكارهم بعفوية وموضوعية، ويمكن أن تكون خيارات حصص القرآن هي الانطلاقة الصحيحة نحو تحديث نظام التعليم من منهج يرتكز على التلقين والتحفيظ إلى منهج يرتكز على التفهيم والتحليل والاستنتاج أو بمعنى آخر تطوير المدرسة من مُنشأةٍ تُنتِجُ نُسَخاً مُتكررةً من الطلبة، إلى صرحٍ يعلم الطلبة البحث والاستقراء والفهم والاستنباط، وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى تطبيق طريقة العصف الذهني في التعليم: وهي طريقة حديثة تعتمد على قدح الذهن والعمل الجماعي الإبداعي الذي من خلاله تحاول المجمعة مناقشة موضوع معين أو قضية معينة بتجميع قائمة من الأفكار العفوية التي يسهم بها أفراد المجموعة، وعند استخدام طريقة العصف الذهني يجب أن يركز المشاركون في التوسيع والإضافة لأفكارهم، كما يجب حجب النقد مؤقتاً وحفظه إلى وقت لاحق في مرحلة النقد، لأنه بتعليق النقد سيقوم الطلبة بتوليد أفكارهم الإبداعية والخلاقة وتطويرها.. مع توفر وسائل التكنولوجيا الحديثة وشبكات المعلومات بين مراكز التعليم يمكن إدخال العصف الذهني الإلكتروني إلى مختلف الفصول الدراسية بوضع شاشات حواسيب مرتبطة مع جهاز تحكم مركزي، لمناقشة القضية موضوع الدرس، ويتم من خلال العصف الذهني الذي يتم إلكترونياً إدراج الأفكار والاستنتاجات التي قد ترد على أذهان الطلبة أو تخطر ببالهم، دون مناقشة لأي منها، وبعد أن ينتهي الجميع من وضع أفكارهم، تنتهي هذه المرحلة لتبدأ مرحلة تحليل ونقد ومناقشة الأفكار وتجميعها واختيار الأفكار والمعاني الصحيحة وحذف الأفكار الخاطئة.
ومن مميزات طريقة العصف الذهني الإلكتروني أنه يمكن للمشرفين التربويين من خلال شاشات خاصة بهم الربط الإلكتروني بينهم وبين الطلبة لمعرفة مختلف أفكار الطلبة في مرحلة مبكرة، ورصد تأثيرات عصر العولمة على الطلبة، وتدارك آثارها السلبية من خلال طريقة التعليم الحديثة.
والخلاصة أن متطلبات العصر الحديث تقتضي من نظام التعليم في الدول الإسلامية أن ينتج نوعين من الطلبة، أحدهما يسلك طريق الحفظ والتلقين والآخر يسلك طريق البحث والاستنتاج، وكلا النوعين سيكملان بعضهما البعض في الحفاظ على الهوية الإسلامية في عصر العولمة.