م. خالد إبراهيم الحجي
إنه من الممكن وضع تصورٍ تقريبيٍّ للمجتمع المثالي، إذا كان بإمكانك أن تصنع تصوراً للإنسانية التي ستعيش في ذلك المجتمع من خلال الأسئلة التالية: (1) ما هي التركيبة الاجتماعية لهذا المجتمع؟ (2) كيف ستكون طبيعة البشر في المجتمع المثالي؟ (3) ما الدور الذي سيؤديه أو يمثله كل فرد من أفراد هذا المجتمع؟
(4) ما وضع الجيران في هذا المجتمع؟ (5) ما دور كل مؤسسة من مؤسسات هذا المجتمع؟ (6) ما هو النظام الاقتصادي للمجتمع؟ (7) كيف يكون حال التعليم فيه؟ (8) ما شكل الخدمات والمرافق والبنية التحتية لهذا المجتمع؟ (9) ما هو شكل النظام السياسي الذي سيحكمه؟ وما الدور الذي سيقوم به النظام السياسي في هذا المجتمع؟..
وفي الحقيقة من السهل يمكن أن تتخيل كل شيء يخطر على بالك الآن أو في المستقبل؟ وهنا يأتي سؤال صعب جداً أو يطرح نفسه، كيف يمكن أن يتحول هذا التخيل إلى حقيقة أو كيف نجيب على الأسئلة السابقة إجابة عملية على أرض الواقع؟.. لأن الفكرة أو الحل أو الوضع الذي قد يكون مناسباً أو مميزاً أو رائعاً في الوقت الحاضر يمكن أن يكون أكبر ضرراً أو عيباً في المستقبل القريب لأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به، كما يجب ألا ننسى أن البشر أصناف مختلفة ومتنوعة، وأينما وجد الاختلاف والتنوع وجد احتمال التعارض والتصادم والصراع، وعندما نتصور المجتمع المثالي فذلك يعني أنه يجب أن يسود التفاهم والانسجام والتآلف في المجتمع وليس الاختلاف والتصادم والصراع، والتعليم من أهم الطرق التي يمكن من خلالها أن نقلل من نتائج الاختلاف أو آثاره السلبية، لأن التعليم يساعد على فهم الجوانب المختلفة لأي موضوعٍ كما يساعد على الاستفادة من الآراء المطروحة فضلاً عن تقبل الاختلاف والرأي الآخر والتعايش السلمي معه، وبالتالي سيشجع التعليم على التسامح الذي سيساهم بدوره في تحقيق المجتمع المثالي المنشود، والشيء المهم الذي يمكن أن يفعله المجتمع في الوقت الحاضر للنهوض بالأجيال القادمة في المستقبل هو أن نربي قادة المستقبل ونؤسسهم على الإدراك والوعي بكل المزالق والمخاطر التي تهدد المجتمع وتؤدي إلى الصراع والتناحر والتفكك والانقسام، كما يجب أن ندربهم على اختيار أفضل الأوضاع والخيارات المرتبطة بمختلف الطرق والأنظمة والشرائع التي ترتقي بالمجتمع.. ومن المهم جداً ألا نكرر أخطاء الماضي عن طريق فرض مرئياتنا ورغباتنا على هؤلاء الذين سيكونون قادةً مسؤولين عن النهوض بالمجتمع في المستقبل، لأن جميع حالات التذمر والشكاوي والاحتجاج والتمرد على كل ما يحدث في الوقت الحاضر تعود أسبابه إلى الجشع والاستبداد والفساد والظلم الذي تغرق فيه المجتمعات الحالية وتعتمد على مبدأ التسلط والقهر والديكتاتورية، وشعورنا بالقلق العميق تجاه مستقبل أبنائنا يجعلنا نبحث عن الطرق الملائمة التي تساهم في تحقيق المجتمع المثالي لهم، دون أن نفرض على أبنائنا الطرق التي يجب على أجيال المستقبل أن يتبعوها في قيادة المجتمع وبنائه.
ومن عيوب التربية الحالية في التاريخ المعاصر فرض أساليب وتوجيهات الشيوخ الأكبر سناً على أجيال المستقبل وإلزامهم باتباعها لأنه لكل زمانٍ رجال، ولأن واقع الحال يشهد ويؤكد أن أغلبها توجيهات تفضي إلى الكسل الذهني وتوارثه عبر الأجيال، ولهذا السبب تحولت فكرة المجتمع المثالي المنشود إلى مجرد حلمٍ جميلٍ يستمتع بالحديث عنه الشيوخ الأكبر سناً، وأصبحت إرثاً للأبناء والأحفاد وأجيال المستقبل اقتداءً بمن سبقهم. ولذلك أخذت الهوة والمسافة تزداد بعداً بين هذه المجتمعات الحالمة والمجتمعات الغربية المتقدمة والمتطورة علمياً وصناعياً وتقنياً، والفجوة تزداد اتساعاً.
ففي الوقت الذي تتصارع فيه هذه المجتمعات الحالمة بالديمقراطية والربيع العربي، وتطحن بعضها بعضاً من أجل الحرية والخلاص من الجشع والاستبداد والفساد والظلم، تزداد المجتمعات الغربية تطوراً بسبب أدوات في منتهى القوة وهي الحوار والنشاط الفكري البناء والعلم لأنه كما هو معلوم ومؤكد من واقع التاريخ المعاصر أن مجتمعات القهر والديكتاتورية مآلها إلى التفتت والانهيار مثل الشيوعية والفاشية والنازية، لأنها عدوة التحضر والتقدم، فبعد أن كانت المجتمعات الغربية، خلال مراحل تطورها، تستولي على ثروات المجتمعات الحالمة بالديمقراطية بقوة السلاح والاستعمار والاحتلال والسيطرة بالقوة، تقدمت الدول الغربية علمياً واقتصادياً وعسكرياً.. فلم تعد في حاجة إلى الاستعمار أو الاحتلال والسيطرة للأسباب التالية:
أولاً: بدأت الدول الغربية تستغني عن ثروات هذه المجتمعات النامية لأن المجتمعات الغربية استطاعت بالعلم والعمل والنشاط الدؤوب إيجاد الوسائل واختراع البدائل والحلول للتغلب على تحديات التنمية التي تواجهها.
ثانياً: الوضع الراهن حَوَّل المجتمعات النامية إلى مجتمعاتٍ مُستهلكةٍ غير منتجةٍ وبذلك أصبحت تابعة للمجتمعات الغربية المتطورة من خلال حاجتها إلى منتجات العصر الحديث.
ثالثاً: المجتمعات الغربية المتطورة أصبحت تغذي الفرقة والنزاع وتذكي التطاحن والصراع بين المجتمعات النامية بالأفكار والسلاح والمناورة بالمفاوضات التي لا تجدي نفعاً والحلول السياسية والكيل بمكيالين لتزيدها انحطاطاً وتخلفاً أو تفني بعضها بعضاً لأن سياستهم الدائمة هي فرق تسد، وفي الوقت الحاضر لم يعد لدى المجتمعات النامية العذر المعهود الذي كانت تحتج به سابقاً بأنها مغلوبة على أمرها لأنها مستعمرة أو محتلة أو يسيطر عليها العدو ويسلب مقدراتها وينهب ثرواتها، لأن المجتمعات الغربية المتطورة تركتها فلم تعد هناك فائدة من هذه المجتمعات النامية إلا تسويق منتجاتها لسد حاجاتها الاستهلاكية التي فرضها الوضع الراهن.
ومن هذا المنظور فإن المستقبل لهذه المجتمعات النامية ليس وردياً كما نتخيل أن يكون عليه الربيع العربي، بل مستقبل ينذر بمزيد من الانحطاط والتخلف لأنها أيضاً مصابة بآفة الكسل الذهني فأصبح جزء لا يتجزأ من تفكيرها النمطي يعيقها عن الابتكار والاختراع وتحويل العلوم التي تتعلمها إلى تطبيقات عملية مفيدة، وبعض الباحثين يرى أن الكسل الذهني: هو نتيجة التركيز والاهتمام على الآثار الآنية السارة للممارسات اليومية بدلاً من تلافي أو علاج النتائج السلبية الطويلة الأجل، لذلك ستظل مجتمعاتٍ حالمةً جامدة في مكانها، ولا يمكن أن يستطيع أي مجتمع مهما رفع من شعارات المثالية الحالمة أن ينافس على أرض الواقع في ميدان الريادة العالمي وهو مصاب بآفة الكسل الذهني، والبعض الآخر من الباحثين أكثر واقعية يرى أن الكسل الذهني: هو حالة من الجمود الذهني يكون الفرد خلالها فقيراً للدوافع الشخصية (الداخلية) ومحروماً من الدوافع (الخارجية) المحيطة به والمؤثرة فيه كي يذهب بفكره النمطي إلى أبعد من مجاله الذي يعيش فيه أو يخرجه من عالم الخيال والأحلام إلى أرض الواقع.
الخلاصة:
إن المجتمع المثالي يوتوبياً من ضرب الخيال، ولكن الذي يمكن تخيله للواقع الراهن مجتمع يتكون من مستويات عديدة، أعلاه: الإدراك والوعي بكل المزالق والمخاطر التي تهدد المجتمع وتؤدي إلى التفكك والانقسام والفساد والظلم، وأدناه: القدرة الذاتية على إيجاد الوسائل واختراع البدائل وابتكار الحلول للتغلب على تحديات التنمية.