م. خالد إبراهيم الحجي
إنَّ اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية في المملكة ظهرت ملامحها القوية بكل وضوح بعد التفجيرات التي تمت في عدة مساجد من مساجد المملكة في كل من الأحساء والقطيف والدمام، وآخرها التفجير الذي تم في مسجد قوات الطوارئ في عسير،
ولا يمكن لأحدٍ أن يشكك أو يزايد في مدى حرص الشعب السعودي على الالتفاف حول قيادته في الوقوف صفاً واحداً في وجه الإرهاب الأعمى الذي ضرب مساجد المملكة فراح ضحيته عدد من الأبرياء نحسبهم- إن شاء الله- من الشهداء وندعو لهم بالمغفرة والرحمة الواسعة، ويكاد الجميع يتفق على أن مكافحة العمليات الانتحارية والفكر المتطرف يتطلب علاجين متوازيين الأول: العلاج الأمني: والجميع يتفق على أن العلاج الأمني تقوم به القوات الأمنية خير قيامٍ، ولا يستطيع أحدٌ أن يشكك أو يزايد على القدرات الأمنية السعودية في مكافحة الإرهاب التي استشهد خلالها صفوةٌ من أفراد قوات الأمن وهم يؤدون واجبهم الوطني غفر الله لهم جميعاً وتغمدهم برحمته الواسعة، فالنجاحات التي تحققها القوات الأمنية السعودية في مجال الحرب على المخدرات ومكافحة الإرهاب يشهد بها الداني والقاصي، ومن يعيش داخل المملكة أو من يعيش خارجها، لذا يجب أن نطمئنَّ على أن العلاج الأمني في مساره الصحيح، لأن القبضة الأمنية السعودية قوية جداً- ولله الحمد-، والعلاج الثاني هو العلاج الفكري: والسؤال الذي يطرح نفسه على الساحة بقوة ماهو العلاج الفكري الصحيح للفكر المتطرف؟ وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نحدد الأسباب الجذرية التي تدفع الشباب إلى ارتكاب العمليات الانتحارية والإرهاب باسم الدين الإسلامي، وفي هذا الصدد وعند الإجابة عن السؤال السابق يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا بكل تجرد وحيادية وبلا مواربة أو خجل من الحقيقة، وننظر إلى مجتمعنا الذي نعيش فيه بإنصاف من الزاويتين الداخلية والخارجية كي نستطيع تشخيص الأسباب التي دفعت بعض شبابنا إلى القيام بعمليات انتحارية في المساجد وممارسة الإرهاب، لأن الأمر خطير جداً ويتعلق بسلامتنا وسلامة المستقبل الذي نريده لشبابنا. ومن السهل جداً أن نرى أنفسنا من الزاوية الأولى: وهي الزاوية الداخلية والتي تشتمل على فريقين الأول: الفريق المتفتح من شرائح المجتمع الذي يرى أن المجتمع السعودي مجتمعٌ متشددٌ ومتزمتٌ ويطالب بتعديل مناهج التعليم الديني بحجة أنها السبب في تأسيس الأرضية الخصبة للفكر المتطرف عند الشباب لذلك تم تصنيف هؤلاء البعض بأنهم علمانيون أو ليبراليون أو زنادقة من قبل المتزمتين والمتشددين، والفريق الثاني: وهو الغالبية العظمى من شرائح المجتمع الذين يرون أن المجتمع السعودي سلفي وسطي معتدل ويتسم بالتناسق والانسجام ويصفون أصحاب الكر المتطرف بأنهم من الخوارج وأحياناً يصفون العمليات الانتحارية في المساجد وجميع أشكال الإرهاب بأنها فتنة لتمزيق وحدة المجتمع ولحمته الوطنية. ولكن الصعوبة الشديدة تكمن في رؤية المجتمع من الزاوية الثانية: وهي الزاوية الخارجية، وخير وسيلة لرؤية أنفسنا من الخارج هو أن نستعين بمراكز الدراسات الإستراتيجية الدولية المعتبرة والمهتمة بالشأن السعودي، والتي نقتبس من بعض تقاريرها العديدة عن السعودية الآتي: (إن سياسة الدولة السعودية في مكافحة الإرهاب لا نشاهدها فقط في النجاحات التي تحققها على المستوى المحلي، وإنما أيضا نشاهدها في مساهماتها على المستوى العالمي، ولكن عندما نقرأ ترجمة الأدعية الرمضانية والخطب الدينية الصادرة من بعض الأئمة والخطباء والدعاة في السعودية، في المساجد والفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، نقع في حيرة شديدة بسبب التناقض بين سياسة الدولة والخطاب الديني فيها، لأنه من ناحية نجد سياسة الدولة السعودية تتحدث عن نفسها في مكافحة التطرف والإرهاب، ومن ناحية أخرى هناك لغة دينية ترجمتها تدل على الكراهية والإقصاء والإبعاد ولا تتطابق مع مقاصد الدولة وسياستها)، وعندما نجمع المشهدين من الزاويتين الداخلية والخارجية مع بعضهما بعضا نخرج بنتيجةٍ واضحةٍ وصريحةٍ خلاصتها أن التيار الفكري العام للمجتمع يختلف عن الموقف الرسمي للدولة، فهناك فجوة وتباين لا نراها نحن من الداخل ويراها الآخرون من الخارج، فالأول (التيار الفكري العام) ينادي بالتسامح والانفتاح وقبول الآخرين والتعايش معهم نظرياً، ولكن لا يطبق فكره عملياً على أرض الواقع، بينما الثاني: (موقف الدولة الرسمي) يجسد التطبيق العملي للتسامح والانفتاح وقبول الآخرين والتعايش مع مختلف المذاهب والنحل والأديان. وإذا سلَّمنا بإجماع الغالبية العظمى من شرائح المجتمع على أن المناهج الدينية ليست سبباً مباشراً أو غير مباشر في تأسيس الأرضية الخصبة للفكرالمتطرف، واستشهدنا بالفجوة والتباين بين التيار الديني العام للمجتمع والموقف الرسمي للدولة، عندها يصبح المجتمع هو المسؤول عن تأسيس الأرضية الخصبة لاستعداد وقابلية الشباب السعودي للإقصاء والإبعاد، ويؤكد هذا الاستعداد والقابلية تكرار العمليات الانتحارية في المساجد السعودية من قبل الشباب السعودي بما في ذلك تفجير مسجد الإمام الصادق بالكويت قام به انتحاريٌّ سعوديٌّ والذي يمثل أشد حالات الإقصاء والإبعد، ومما يؤيد الاستنتاج بأن هناك أرضية خصبة للفكر المتطرف من إنتاج المجتمع تلك الصفات المشتركة بين أعضاء الخلايا الإرهابية كما ظهر واضحاً من خلال المؤتمرات الصحفية لوزارة الداخلية وأبرزها العمر، ووجود أكثر من فرد يحملون نفس اسم العائلة وتربطهم قرابة أسرية بين بعضهم بعضا، فجميع الشباب السعودي أصحاب الفكر المتطرف، يجب أن نعترف بكل صدق وأمانة، أنهم أبناء نشأة واحدة وهويتهم جزءٌ لا يتجزأ من هوية المجتمع .. ولحماية الشباب السعودي من الاستدراج إلى مهلكة الفكر المتطرف يجب المسارعة في ردم الفجوة والتباين بين الموقف الرسمي للحكومة المتمثل في تطبيق التسامح والتعايش على أرض الواقع وبين الاتجاه الفكري السائد في المجتمع الذي يرفع شعارات التسامح والتعايش ولا يطبقها على أرض الواقع، فنشأ عند الشباب السعودي نزعة الإقصاء والإبعاد، والحاجة أصبحت اليوم ملحة أكثر من أي وقتٍ مضى وتوجب على الأئمة وخطباء الوعظ والإرشاد والدعاة الذين عهدناهم دائماً قادة للفكر في المجتمع تبني الخطوات الإستراتيجية التالية:
أولاً: مطالبة أصحاب الأصوات المؤثرة التي ربما لا تتبنى العنف ولكنها تتعاطف مع التطرف والإرهاب بارتقاء المنصات الإعلامية وتوظيف قدراتهم الخطابية التي طالما عهدناها منهم في تفنيد الفكر الضال ومخاطره على المجتمع والوطن والعالم واتخاذ مواقف واضحة وشفافة.
ثانياً: يجب تسمية داعش والمنتمين إليها بمسميات حديثة واضحة ومفهومة ووصفها بأوصافها الحقيقية التي تتصل بأفعالهم على أرض الواقع، وعدم استخدام مصطلحات غامضة مثل تحميل مسؤولية تفجير مسجد قوة الطوارئ على شبيه أبو لؤلؤة المجوسي الذي قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أوعلى شبيه عبدالرحمن بن ملجم الذي قتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو تحميل المسؤولية على الخوارج والدعاء عليهم في القنوت، أو اعتبار تفجير المساجد بأنه فتنة تثير مزيداً من الأسئلة والتأويل بدلاً من تقديم تفسيرات واضحة مفهومة لعامة الناس.
ثالثاً: عقد منتديات للمشاركة المجتمعية للاستماع مباشرة لهؤلاء الذين يقفون في وجه التطرف ويحاربونه، فهناك أصوات قوية جداً في المجتمع عهدنا سماعها، ولكن حتى الآن لم تبرز أصوات في المجتمع بنفس القوة يشار إليها بالبنان أو يعرف عنها أنها ندبت نفسها أوحملت لواء محاربة الفكرالضال المتطرف.
الخلاصة:
إن إلصاق مسؤولية تفجير المساجد بالخوارج تجعل الغالبية العظمى من قادة الفكر في المجتمع ينأون بأنفسهم عن القيادة الفكرية، ولكن عند تبرئة المناهج الدينية من إنتاج الفكر المتطرف فذلك يعني أن الفكر المتطرف من إنتاج المجتمع.