م. خالد إبراهيم الحجي
إن المدن الرئيسية في العراق تتساقط واحدة تلو الأخرى في يد القاعدة أو داعش، وسوريا في حالة انهيار مستمر، ولبنان دخلت العام الثاني بدون انتخاب رئيس لها، والمؤشرات تُوحي أنها على طريق التّفتت مرة أخرى، ومصر ربما وصلت لحالة من الاستقرار بعض الشيء بعد تقلبات مثيرة للجدل بين الثورة الحقيقية والانقلاب العسكري،
وليبيا في حالة غموض وصراع بين العسكر والمليشيات المختلفة، وتونس ما زالت مضطربة بين الحياة العادية وحالات منع التجول لمكافحة الإرهاب، واليمن وصل الصراع فيه إلى حد الانقلاب على الشرعية والصدام المسلح، ومن تحت رماد وأنقاض كل هذه العمليات المفخخة والتفجيرات والدماء التي سالت والمنازل التي هدمت والمدن التي دمرت بسبب الصراعات المسلحة تنبثق مواضيع شائكة تفرض نفسها على الساحة في الوقت الراهن، أخطرها أن منطقة العراق والشام أخذت تتبلور باستعار نار الطائفية فيها بين السنّة والشيعة، والشرق الأوسط لم يعد على حافة الانهيار فقط، وإنما بدأ يأخذ شكلاً مختلفاً عن تلك الخطوط التي فرضها الاستعمار بالقوة والوقاحة حسب مصالحه الجشعة في المنطقة قبل قرن من الزمان تقريباً، فمعظم الحدود في منطقة الشرق الأوسط اخترقت وتغيرت، ولكن خلال عملية التبلور الحديثة التي أخذت تُشكّل حدود الأرض تبقى هناك قوتان طموحتان صامدتان هما إيران والمملكة العربية السعودية وجهاً لوجه في معركة التأثير والنفوذ، فأصبح في منطقة الخليج العربي قطبان رئيسيان (ثنائية القطب): وهو مصطلح حديث في النظام الدولي يعني وجود قوتين عظميين في الخليج تمتلكان من مصادر القوة والنفوذ ما لا تمتلكه قوة أخرى، لأن محاولة إيران لإثارة القلاقل في جزيرة سرت البحرينية مباشرة بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع القوى العظمى، دليل على السعار الذي أصاب إيران، ويعزز صحة التسريبات الإخبارية التي تفيد أن الاتفاق النووي الإيراني يتضمن صفقة سرية غير معلنة تتعلق بتنازلات مؤقتة من إيران عن برنامجها النووي مقابل تغاضي القوى العظمى عن مكاسب إيران في منطقة الخليج، وأهمها الجزر الإماراتية الثلاث والسكوت عن محاولات إيران للهيمنة على جزيرة البحرين، أو جزءٍ منها ابتداءً من جزيرة سرت.. والمملكة العربية السعودية بلا شك لن تقف مكتوفة الأيدي حيال محاولات إيران الهيمنة على البحرين أو التدخل السافر في منطقة الخليج، وإيران تعلم جيداً أن السعودية ستقف لها بالمرصاد لا سيما بعد عاصفة الحزم في اليمن التي أكدت استعداد المملكة العربية السعودية لاستعمال القوة العسكرية للمحافظة على أمنها الإستراتيجي ومنع إيران من التمدد أو الاقتراب من حدود المملكة.. ومن هذا المنطلق تبقى معركة التأثير والنفوذ مستمرة في منطقة الخليج العربي بين إيران والمملكة العربية السعودية لسببين الأول هو: خساة إيران على الأرض في اليمن، والثاني: بسبب القوة العسكرية السعودية وقوات درع الخليج التي تقف بينها وبين تحقيق أطماعها في البحرين، ولهجة التصريحات الإيرانية بشأن منطقة الخليج بعد الاتفاق النووي الإيراني تدل على أن إيران بصدد تحويل المعركة بينها وبين السعودية إلى معركة ندية إستراتيجية طويلة الأمد أو ما يُسمى بالحرب الباردة: وهو مصطلح حديث يستخدم لوصف حالة التنافس والتراشق الإعلامي بالبيانات والتصريحات والتوتر والصراع بين دولتين دون الوصول إلى درجة إعلان الحرب أو الصدام المسلح بينهما، حيث تعلم إيران أكاديمياً أن كسب المعركة الإستراتيجية مرهون بطبيعة الرؤية الإستراتيجية لكل بلد، ولأن الرؤية الإستراتيجية للمملكة صادقة ونزيهة وثابته وبناءة، ولأن إيران أصبحت تعلم علم اليقين أنها لن تستطيع الهيمنة على البحرين بعد أن خسرت اليمن بسبب عاصفة الحزم، لذا ستراهن إيران على رؤيتها الإستراتيجية التي نجحت في العراق وسوريا ولبنان من خلال تحويل معركة التأثير والنفوذ في الخليج مع السعودية إلى حرب باردة طويلة الأمد كي تأخذ الوقت الكافي لتصل في المستقبل إلى تطوير قوتها العسكرية بالأسلحة التقليدية - سباق تسلح مع السعودية - بمساعدة القوى العظمى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بعد استعادة إيران 100 بليون دولار من أرصدتها المجمدة في أوروبا وأمريكا ورفع العقوبات الاقتصادية عنها كما جاء في الاتفاق النووي الإيراني المعلن. إن مصلحة المملكة تقتضي أن تفسر تصريحات إيران بعد الاتفاق النووي الإيراني ومحاولتها بعد ذلك العبث بأمن وأمان جزيرة سرت البحرينية على أنه تكتيك إستراتيجي لتحويل الصراع بينها وبين المملكة إلى حرب باردة لتحقيق مكاسب توسعية واقتصادية وسياسية وعسكرية على المدى البعيد في السنوات القادمة، لذا يجب معاملة هذا التكتيك الإيراني الإستراتيجي من خلال توسيع المملكة لرؤيتها الإستراتيجية الإقليمية إلى رؤية جيوإستراتيجية بطريقة مدروسة ومتعمدة يوظف مفهوم القطبية المتعددة: وهو مصطلح حديث في النظام الدولي ويعني توزيع القوة والتأثير والنفوذ في منطقة إقليمية أو في عدة مناطق على مراكز قوى متعددة بهدف خلق حالة من التوازن في قوى التأثير والنفوذ، مثل التحويل المتعمد لمنطقة الخليج من الحيز الإقليمي المقتصر على تأثير دولتين إلى الحيز العالمي الذي يشمل أكثر من دولتين، وتوظيف مفهوم الجيوإستراتيجية في منطقة الخليج يطلب تنفيذ هدفين: أحدهما: التحرك السعودي المتعمّد نحو تحويل القطبية في منطقة الخليج من ثنائية تقتصر على المملكة وإيران إلى قطبية رباعية مكونة من أربع دول، والثاني: اختيار الدول المناسبة للدخول في القطبية الرباعية الجديدة للمحافظة على التوازن في منطقة الخليج بما يتفق مع العقيدة الدينية والسياسية للسعودية والأقطاب الأخرى، وهنا يأتي دور الدبلوماسية السعودية لتفعيل القطبية المتعددة، وعند استعراض أفضل الدول المناسبة والمؤهلة للدخول في القطبية المتعددة نجد أنها إسرائيل وتركيا وباكستان، وإسرائيل تُعد هي الأنسب والأجدر لتلعب الدور الرئيس لخلق حالة التوازن المنشودة، إلا أن دخولها يتطلب تطبيع العلاقة معها، لذا تبقى دولة تركيا وباكستان هما مركزا القوى المؤهلة للدخول مع المملكة لخلق القطبية الرباعية التي ترغب المملكة استحداثها في منطقة الخليج، وبهذه المبادرة السعودية المتعمَّدة تتحوَّل رؤية المملكة من إستراتيجية إقليمية إلى جيوإسترتيجية مهيمنة، وبالتالي تصبح الرؤية الإستراتيجية الإيرانية الإقليمية أسيرة لهالة التأثير والنفوذ المنبثقة من الرؤية الجيوإستراتيجية السعودية العالمية، مما يؤدي إلى عجز إيران عن تحقيق مكاسب سياسية وإعلامية متعلقة بالبحرين خلال حربها الباردة مع السعودية، كما تعجز عن تحقيق مكاسب عسكرية لأن البحرين تقع دائماً تحت سمع وبصر القوات العسكرية السعودية، وفي الوقت نفسه يكون هناك وقت كافٍ للمملكة لإنجاز برنامجها النووي في ظل رؤية إستراتيجية واضحة وطويلة الأمد، بعد أن تحوَّل مراكز التأثير والنفوذ من قطبية ثنائية على مستوى الخليج العربي إلى قطبية رباعية تأثيرها أوسع وأشمل من منطقة الخليج.
الخلاصة:
يجب أن تسعى السعودية لإيجاد قطبية رباعية في الخليج العربي لتحوّل معركة الرؤية الإستراتيجية مع إيران من المستوى الإقليمي إلى المستوى الجيوإستراتيجي لجعل التأثير والنفوذ في منطقة الخليج في يد المملكة، فضلاً عن امتلاك البرنامج النووي.