اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وكان الهدف الظاهر من تمدُّد تنظيم الدولة، وانتقال بعض عناصره إلى سوريا هو التصدي لنظام الأسد، ودفع الصائل من أعوانه الذين أتوا من إيران ولبنان والعراق، والتوسع على حسابهم، وعندما استقر الأمر للتنظيم أدار ظهره نحو قوات النظام النصيري والتنظيمات الشيعية المساندة له، ووجَّه أسلحته إلى صدور المعارضة السورية
والجيش الحر، واقترف جرائم وفظائع بحق الشعب السوري، وبدلاً من أن يدافع عن الشعب الذي يئن تت رحمة الطائرات والصواريخ والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، ويوفر له شيئًا من الأمن والأمان لتخفيف معاناته، تخندق بين ظهرانيه وجعل من نفسه حجة تسوِّغ للنظام وأنصاره الإمعان في قتل البشر وتدمير المقر، وغالى في إخافة الناس، وأوجد حوله هالة من الرعب، وارتكب مجازر تقشعر لها الأبدان، وترفضها فطرة الإنسان، وهي ممارسات لا يقرَّها دين، ولا يقبلها عقل، ولا يؤيدها نقل، لما تنم عنه من وحشية وهمجية مرتكبيها، وفساد أخلاقهم، وأنهم يعملون لهدم الدين والإساءة إليه، وهم أبعد ما يكونون عنه، وكما قال الشاعر:
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعًا
في الدين بالرأي لم يبعث بها الرسل
حتى استخف بدين الله أكثرهم
وفي الذي حملوا من حقه شغلُ
وطالما هذا هو موقف التنظيم تجاه النظام السوري، بحيث يقاتل إلى جانبه لا ضده، فماذا يمكن أن يقال عنه، غير أنه شريك له، وبينهما تخادم في مواقف عديدة ذات دلالات يلفها الغموض، وتحيط بها الشبهة، ومن ضمن ذلك ما حصل في تدمر وغيرها، ويمكن الحكم على ضوء هذا الواقع بأن النظام له دور في صناعة التنظيم أو إعادة صناعته، خاصةً وأنه لم يحدث بينهما قتال فعلي، كما لم يخض التنظيم قتالًا مع حزب الله اللبناني أو أي تنظيم شيعي آخر، والحالات الفردية والمواقف العارضة لا يعوَّل عليها؛ لكونها تدخل في مفهوم الحيل والخداع والعمل الاستخباري، وغالبًا ما يتجه قتال عناصر التنظيم إلى المناطق المحررة لاحتلالها مع تفادي الدخول في مواجهة مع قوات النظام والمتعاونين معه، الأمر الذي تكشفت عنه سوءة القيادة التي توجه وتدير هذه العناصر، واستبان سلوكها الظالم وعملها الآثم نحو الثورة السورية والسوريين.
وصار هذا التنظيم سببًا في فشل الثورة السورية وانحرافها عن أهدافها؛ بالالتفاف عليها وإطلاق صفة الإرهاب على كل مَنْ يدافع عنها، ويقاتل في سبيلها، كما تسبب في خذلان المجتمع الدولي لها، والشاهد على هذه النتيجة ومآلاتها أنه مقابل ذريعة مكافحة الإرهاب وبحجة وجود الإرهابيين على الأرض السورية، أصبح الشعب السوري بين مطرقة إرهاب تنظيم الدولة وسندان إرهاب النظام النصيري والتنظيمات الشيعية الداعمة له، وانتهى الأمر بهذا الشعب إلى التعرض لأبشع أنواع القتل والاعتقال والتهجير، وتحقق للإرهابيين ورعاتهم ما أرادوا من إطالة أمد الصراع، واستمرار بقاء النظام وتفريغ سوريا من شعبها، وتدمير آثارها، تمهيدًا لمسخ هويتها والسير بها نحو تغيير ديموغرافي وتطهير عرقي، والخطوات التحضيرية لإنجاز ذلك تجري على قدم وساق من قِبَلِ إيران والنظام الحاكم والتنظيمات الشيعية الموجودة على الأرض، وقد أكد ذلك رئيس النظام في خطابه الأخير عندما قال إن سوريا لمن يدافع عن نظامه.
والنظام الإيراني وأذرعه في سوريا والعراق بالإضافة إلى تنظيم الدولة يشكلون معاول هدم وأدوات قتل لإضعاف الإسلام السني، والعداوة بين الرافضة والخوارج ليست سوى جسر يعبرون من خلاله لتحقيق أهدافهم وإيجاد الأسباب والذرائع والمبررات للنيل من الإسلام المعتدل وتشويهه، وانطلاقًا من هذه القاعدة فإن ثمة علاقات وثيقة وأهدافًا مشتركة تجمع بين نظام الأسد ونظام المالكي بشأن ما يحدث في سوريا والعراق؛ حيث إن المالكي إبَّان رئاسته وبعدها لم يكن بعيدًا عن مجريات الأحداث في سوريا، وإنما كان حاضرًا عن طريق التنظيمات الصفوية التي تشرف عليها إيران والتي تقاتل إلى جانب النظام السوري، كما يوجد بين النظامين وتنظيم الدولة اتصالات تمر عبر قنوات استخباراتية وتتولى إيران جانبًا منها، وانتصارًا للطائفية ورضوخًا للإملاءات الإيرانية أراد المالكي أن تتحول مكافحة الإرهاب في العراق من حالتها الجزئية إلى حالة كلية، بهدف الإيقاع بالحواضن السنية ووضعها بين فكي كماشة، يتنازعها إرهاب التنظيم من جهة وإرهاب التنظيمات الشيعية من جهة أخرى.
وللوصول إلى ذلك لجأ إلى وسائل متوسلة، واستخدم قنوات موصلة لدفع التنظيم في العراق إلى تطوير عمله بالتمدد في المحافظات السنية لتعميم الاحتضان وتكريس الوجود حتى يمارس فيها التنظيم إرهابه على نحو يخدم المواجهة المنتظرة بالصيغة التي توفر الذريعة لإلصاق تهمة الإرهاب بسكان هذه المحافظات، وما يعنيه ذلك من إيجاد المبرر لاستهدافها من قبل أجنحة النظام الأمنية والعسكرية والتنظيمات الشيعية؛ بغية كسر شوكة هذه المحافظات وإذلالها، وصولاً إلى التمكن من القتل على الهوية والتهجير والنزوح وعملية الإحلال والإبدال، وفعلت الوسائل القذرة والقنوات السرية فعلها، واكتسح التنظيم مدينة الموصل، وصدرت أوامر المالكي إلى قواته بالانسحاب منها، وترك الأسلحة بأنواعها ليستفيد منها التنظيم الذي دخل المدينة وأحكم سيطرته عليها، وواصل حركته باتجاه إقليم كردستان، وتوسع نحو تخوم بغداد، وأعلن زعيم التنظيم خلافته التي لا يحدها حدود ولا يقيِّدُها قيود، ومارس التنظيم أسوأ أنواع الإرهاب بحق الأقليات، وكل من يعارضه أو يصطدم معه، وعندها حصل رد فعل حكومي مُبَيَّت بليل، واستنفر النظام جميع قواه، ونادى المرجع الشيعي بالجهاد الكفائي، وتشكل الحشد الشعبي وانضم إلى التشكيلات الأمنية والعسكرية، توطئةً لقتال التنظيم، والعين على معاقل السنة، واعتبار التغيير الديموغرافي والتطهير المذهبي هدفًا من أهداف مواجهة الإرهاب، وتدمير دور العبادة والآثار أبلغ شاهد على ذلك، والشعور السائد هو كما قال الشاعر:
لا تأمننَّ امرءًا خان امرءًا أبدًا
إن من الناس ذا وجهين خوَّانًا
وضمن الإطار نفسه، وعندما طرأ الموقف وسيطر تنظيم الدولة على الموصل، وتمدَّد في المنطقة المجاورة، واقترف جرائمه، أعلنت الولايات المتحدة عزمها على مواجهته جويًّا، ودعت إلى تحالف دولي للمشاركة في حملة جوية بقيادتها ضد مواقع التنظيم، ولدعم العمل البري على الأرض الذي تقوم به حكومة العراق وحكومة إقليم كردستان، وباشرت طائرات التحالف حملتها الجوية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وتعرض المدنيون لشيء من القصف الجوي وبالتحديد الحواضن السنية التي أريد لها أن تكون محضنًا للإرهابيين، وتصبح مسرحًا لقتال ليس لها ذنبٌ فيه.
وإذا كانت القرائن يُستَدلُّ من بعضها على بعض، والحقائق السابقة يشهد لها ويؤيدها ما يحصل من حقائق لاحقة، فإن موقف الموصل تكرر في الرمادي، عندما انسحبت القوات العراقية، تاركةً أسلحتها غنيمة للتنظيم، وهذا الانسحاب كشف سوءة انسحاب الموصل وأكَّد أن وراء الأكمة ما وراءها، وعلى أثر الانسحاب باتت المحافظات السنية رهينة لإرهاب التنظيم، وفتح ذلك شهية الحشد الشعبي؛ ليجعل من محافظات صلاح الدين ونينوى والأنبار ميدانًا لممارساته الإرهابية، مرتكبًا الجرائم ضد سكانها تحت شعارات طائفية بغيضة، وتجلت هذه الجرائم في القتل وتدمير المنازل ودور العبادة والتسبب في نزوح السكان وعدم السماح لهم بالعودة، ويحدث كل ذلك بحجة قتال تنظيم الدولة، وتحت مظلة الحكومة، حتى أن هذا الحشد أحرق أشخاصًا أحياء، وبلغ الأمر بإذلال أهل السنة وإهانتهم إلى أن أحدهم مِمَّنْ اضطر إلى النزوح من محافظته لم يسمح له بدخول بغداد إلا بكفيل، والحكومة لم تحرك ساكنًا، وموقفها مما يجري من أحداث يدينها، ويجعلها شريكًا للظالم في ظلمه، والظلم مرتعه وخيم وعلامات صاحبه أنه يعصي من فوقه ويعتدي على من دونه ويظاهر الظالمين، وقد قال الشاعر:
إذا جار الرئيس وكاتباه
وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ
لقاضي الأرض من قاضي السماء
وهذا التنظيم الذي تربع على عرش الإرهاب، وتوحش مع وحوش الغاب، في بيئةٍ ليلها طويل، وشجاعها ذليل، وأمينها عميل، لم يصنع نفسه بنفسه، بل لا بد له من صانع، وأعماله الإرهابية تدلِّل على ذلك، فهو يعمل لصالح غيره، والوسائل التي يرسلها من خلال اقترافاته يرجع ضررها عليه، ويعود نفعها إلى طرفٍ آخر، والمستهدف من هذه الاقترافات قد يكون هو المستفيد منها أحيانًا، والتقانة التي يستخدمها هذا التنظيم والاحترافية العالية في التعامل مع الشبكة العنكبوتية وسرعة تمدد عناصره في مناطق متباعدة، كلها توحي بأنه مصنوع من جهة، ومخترق من جهة ثانية، ومتخذًا شمَّاعة وفزَّاعة من جهة ثالثة، وفي الإعدامات التي أقدم عليها بعد السيطرة على الموصل في حق الرهائن الأمريكيين والغربيين واليابانيين، والتي دفعت دولهم إلى الانضمام إلى التحالف وهي كانت مترددة في ذلك ما يدل على تشابك خيوط اللعبة، وكثرة اللاعبين، كما أن إحراق الطيار الأردني جعل الشعب الأردني المنقسم على نفسه حيال انضمام حكومته إلى التحالف يتوحد مع حكومته ضد الإرهاب، والتفجير الذي حدث مؤخرًا في تركيا دفع هذه الدولة المتحفظة على عمل التحالف إلى الانضمام إليه بقوة، والأمثلة كثيرة ودلالاتها الزمانية والمكانية لا تدع مجالاً للشك في وجود جهات كثيرة تحرك هذا التنظيم، ولكلٍّ منها دور نسبي في صناعته.
وإذا كانت الصنيعة يقف خلفها صانع، وتنظيم الدولة يوجد له رعاة؛ فإن السياسة التي تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م والتداعيات الإقليمية والدولية لهذه السياسة، وما نتج عنها من نتائج وترتب عليها من تبعات، وتركيز هذه السياسة على مقاومة الإرهاب، ومنح هذا الهدف الأولوية المطلقة، واستحواذه على غيره من الأهداف، كان لذلك انعكاساته وإفرازاته على الساحة الدولية، خاصةً وأن تعريف الإرهاب من وجهة النظر الأمريكية بقدر ما يخدم مصالحها ويعطيها الحق بالتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى وانتهاك سيادتها، بحجة مكافحة الإرهاب، بقدر ما يفتح الباب لرعاة الإرهاب باستغلال مظلة المكافحة الأمريكية لتغذية الإرهاب والادعاء بمكافحته، كما في حالة رئيس اليمن المخلوع، بالإضافة إلى اتخاذ ذلك من قبل البعض شمَّاعة للاقترافات أو فزَّاعة للإخافات، الأمر الذي اتسعت معه دائرة مكافحة الإرهاب، وجلبت المكافحة في طياتها ما يمكن أن يطلق عليه رعاية الإرهاب، والأسباب المحَرِّكة للرعاة قد تكون أيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية وما يدور في فلك هذه المحركات من تقاطع المصالح وتعارضها ووجود أفق واسع لتصارع الإرادات والعضلات نتيجة لأهداف متداخلة ومتعارضة يصعب فصل بعضها عن بعض، ولكل حالة توصيفها من حيث التخصيص والتعميم.
وتأسيسًا على ذلك فإن تنظيم الدولة رغم تمدده إلا أنه نشأ في بيئة محددة، ألقت بظلالها على الكثير من ممارساته وأهدافه واتضح على ضوئها بعض رعاته وأدواته، والواقع العربي والجوار الفارسي والأحداث التي عصفت بالمنطقة والملف النووي الإيراني والأطراف المتحاورة بشأنه؛ كل ذلك ساعد على تعاظم قوة التنظيم وجعله يصل إلى ما وصل إليه، وإذا كان منبعه مهَّد الطريق له بأن يتزيَّ بالزي الديني، فإن قياداته لا تعرف شيئًا عن الدين، فهم بين صفوي متزندق ومأجور مرتزق، وبعثي ملحد، ولا ديني مفسد، ورعاته هم المستفيدون منه، وهم النظام الإيراني والنظام السوري والنظام العراقي، وأمريكا تكافح الإرهاب حرصًا على سمعتها، وترعى الرعاة لخدمة مصالحها وخدمة إسرائيل، وسوف أتطرق إلى شيء من ذلك في مقالات تالية، وما هي العوامل الجاذبة لهذا التنظيم ومصادر تمويله وقدرته على التمدد وظاهرة تدمير المساجد والآثار ومغزاها.