اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
مما لا يختلف عليه اثنان أن الكلمة الطيبة إذا ما نشرت زاد في النفوس وقعها، وعمّ في مساحة من الأرض نفعها. والكلمة الصادقة التي تدعو إلى الحق وتدحض الباطل هي السلاح الذي تسلح به الأنبياء والرسل. وكل من له هدف يسعى إلى بلوغه يتسلح بالكلمة،
ولكن يبقى صوتها المسموع ومجالها المشروع هو في الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر. ومتى ما انحرفت الكلمة عن هذا المسار، وكسرت قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطغى ضررها على نفعها، فالأسر أوْلى لها. وبشكل عام، فإن من أفضل ما يتكلم به العاقل ألا يتكلم إلا بحجته أو حاجته، ولا يتفكر إلا في عاقبته أو آخرته، ويحتفظ بالكلمة في أسرها حتى يجد الزمان والمكان المناسبين لنشرها، وذلك فيما يعلي كلمة الله، ويخدم الدين والدنيا. والحصيف دائماً يستعين على اختيار ما يكتب أو يقول بتحديد ما يريد، وما يحتاج إليه من الكلام، كما يستعين على الصواب بطول التفكير، ومن التفكير يستفيد التجارب والعبر. وقد قال أحدهم: الكلمة أسيرة في وثاق صاحبها، فإذا تكلم بها صار في وثاقها. وكما قال الشاعر:
قد يخزن الورع التقي لسانه
حذَرَ الكلام وإنه لمفوَّه
وقال آخر:
احفظ لسانك واحتفظ من غيِّه
حتى يكون كأنه مسجون
ومَنْ يجلب الضرر على نفسه بسبب قوله لن يستفيد منه مَنْ حوله، ومن قوله يكون عليه مغرماً فلن يكون هذا القول لغيره مغنماً. وموضوع الكلام، والهيئة التي يكون عليها، والموقف الذي يستدعيه، والأسلوب الذي يقدم به وحجم ونوع الوسط الذي ينشر فيه، كلها عوامل ترفع من درجة الحذر، وتزيد معها احتمالية الضرر. فالكلام المنشور كتابةً، والخطاب الرسمي والإلقاء المنبري والمنتديات، يترتب على ما ينشر من خلال هذه الوسائط مترتبات، وينجم عنها تبعات، ويقع على أطرافها مسؤوليات. وقد صنَّف إبراهيم بن أدهم الكلام على مطلقه من حيث نسبة الصمت إلى الكلام والنفع والضرر إلى أربعة وجوه: أوّلها كلام تُرجى منفعته وتخشى عاقبته، فالفضل منه السلامة. وثانيها كلام لا تُرجى منفعته، ولا تخشى عاقبته، فأقل ما في تركه قلة المؤنة على البدن واللسان. وثالثها كلام لا تُرجى منفعته، وتخشى عاقبته، وهذا هو الداء العضال، والعاقل مكفي مؤنته. ورابعها كلام تُرجى منفعته، وتؤمن عاقبته، وهذا هو الكلام الذي يجب نشره. وبذلك يسقط ثلاثة أرباع الكلام.
ومن الطبيعي أن الكاتب مهما كانت حصافة عقله يصعب عليه التحرز من فضول القول، وقد ينحدر به الاسترسال إلى شيء من اللغو. وإذا كانت هذه الحالة تنطبق على أي كاتب فكيف بمنْ يكتب في السياسة والشأن العام، أو يتحدث عنهما، فإنه أقرب إلى الانزلاق في آفات اللسان. والعاقل يضع عقله تحت قلمه، ويحسن اختيار موضوعه، ويختار الزاوية التي ينظر من خلالها إلى أي موضوع فرضت عليه المواقف معالجته. ولن يتأتّى له ذلك إلا إذا كان يعرف حدود وقيود الموضوع الذي يكتب فيه، والكلام الذي لا يعنيه، ولا يتدخل فيما يعنيه حتى يجد لتدخله موضعاً؛ فربَّ كاتب اهتم بوحدة موضوعه، لكنه ابتعد عن هدفه، وشوَّه فكرته.. وربّ متكلم في أمر يعنيه قد وضع هذا الأمر في غير موضعه؛ فجلب على نفسه المتاعب، وجعلها عرضة للمصاعب. وقد قال الشاعر:
لا تكتب بكفك غير شيء
يسرُّك في القيامة أن تراه
وقال آخر:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى
إن البلاء موكلُّ بالمنطق
وليس ثمة مَنْ هو في أشد الحاجة إلى التروي والأناة ومحاسبة النفس من كاتب يعرض عقله، وينشر فكره، نظراً لما يتربَّص به من ناقد، ويُقيض له من حاسد؛ الأمر الذي يتطلب منه استحضار الذهن، وإعمال العقل؛ إذ إن أفضل مقياس يقاس به عقل الكاتب هو درجة أهمية الأفكار التي يناقشها، والموضوع الذي يختاره، وكيفية تعاطيه مع الأحداث التي تحتم عليه المواقف الكتابة فيها، وما هي الرسالة التي يريد أن يوصِّلها إلى القارئ، والانطباع الذي يرغب أن يتركه في نفس هذا القارئ، مقدماً نفسه من خلال ما يكتب بوصف اختيار الكلمة ووضعها في موضعها الصحيح يمثل أحد المعايير التي تكشف عن شخصية الكاتب، وقدرته على الكتابة وحصافة عقله، وما له من بصمة في هذا المجال. وقد قال القاسم بن عبيد الله: عقل الكاتب في قلمه، والكلام الحسن من مصائد القلوب. وقال أفلاطون: عقول الناس مدوَّنة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم. وقد قال الشاعر:
أوصيك في نظم الكلام بخمسة
إن كنت للموصي الشفيق مطيعاً
لا تغفلنَّ سبب الكلام ووقته
والكيف والكم والمكان جميعاً
وإذا كان الشيء يقرن مع جنسه، واليوم يأتي بعد أمسه، فإن الجميع قد استبشروا خيراً عندما أفل نجم التحزبات الفكرية والاستقطابات الداخلية والخارجية والمماحكات الكلامية التي كان لا يكاد يخلو منها صحيفة يومية، ولا قناة فضائية، وكلها تصب في الاتجاه الخاطئ، لكن المواطن لا يتأثر بها ولا يعيرها قدراً من الاهتمام؛ لأن الوطن محصن ضدها بفضل سلامة المعتقد الديني، ويقظة الحس الوطني، فضلاً عن متانة الوحدة الاجتماعية، وتماسك الجبهة الداخلية، وصلابة اللحمة الوطنية. ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن تلك الممارسات الآفلة بدأت بوادرها تطل علينا من جديد في بعض الصحف والقنوات في الوقت الذي يمر فيه الوطن بمرحلة مصيرية، ويخوض صراعاً مسلحاً على حدوده الجنوبية، وتحيط به الفتن من كل اتجاه، والأعداء يتربصون به من كل مكان. ومرد ذلك أن بعض أصحاب العقول المتخشبة لا يزال يغرد خارج السرب، ولم يأخذ في حسبانه أن نعمة الأمن التي ينعم بها الجميع تحتاج إلى إحيائها بالذكر، وتقييدها بالشكر، وذلك لن يتم إلا بالمحافظة عليها قولاً وفعلاً، بعيداً عن أي شكل من أشكال التحريض والكراهية. ويدخل في شكر النعمة المداومة على ذكرها، والاتعاظ، وأخذ العبرة مما يعانيه الآخرون من الخوف وانفلات الأمن.