اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
نظرًا لنشوء تنظيم الدولة في العراق، وما مرَّت به مسيرة الإرهاب في هذا البلد فإن الحديث عن هذا التنظيم ورعاته لا بد أن ينطلق من البلد المحتضن له وواقع الأطراف المؤثرة على سير الأحداث التي لها دورها المباشر وغير المباشر في استفحال الإرهاب وتمدُّده،
وما هي العوامل التي ساعدت على ذلك سواءً من داخل العراق أو من خارجه، تلك العوامل التي كان لها القدح المعلى واليد الطولى في إيصال البلد إلى ما وصل إليه من الفوضى والاحتقان الطائفي والتعصب المذهبي، وبالتحديد الاحتلال الأمريكي والتدخل الإيراني ونظام الحكم الفاسد الذي تبنَّى الطائفية وعمل على إحلالها محل الوطنية، وبالتالي إفساد أنظمة الدولة وتعطيل مؤسساتها وإضعاف مقاومتها للإرهاب، نتيجة للنيل من قيم المواطنة وطَعْنِ الانتماء الوطني والقومي في مقتل، وانفراط عقد الصلات والروابط الاجتماعية.
ومن المعروف أن أمريكا عندما غزت العراق، كان من الذرائع التي تتذرع بها محاربة الإرهاب، وقد تأكَّد بعد الغزو أن ذريعة الإرهاب كانت فرية مختلقة لمحدودية وجود هذه الآفة في بلاد الرافدين قبل الغزو، ومما يثير التساؤل ويطرح أكثر من علامة استفهام أن الدولة التي ترفع شعار محاربة الإرهاب في العالم، وغزت العراق لمحاربة هذا الإرهاب وجدت نفسها بعد أن احتلت البلد واستباحت الأرض حامية لرعاة الإرهاب ودعاته بإرادة أو من دون إرادة، وساعد احتلالها وغياب السلطة والروح الانتهازية عند فئات معينة على تحريك مكامن الإرهاب وإيقاظ الفتنة من سباتها عن طريق إثارة المذهبية والترويج للطائفية، وفسْح المجال لمطامع الجار الإيراني الذي واتته الفرصة للانتقام وتصفية الحسابات وأخذ الثأر من عدوه اللدود وشريكه في الحدود.
وترتيبًا على ذلك فإن ظروف الواقع الجديد، ومعطيات ما بعد الاحتلال غذَّت الطائفية وشجَّعت على تشكيل التنظيمات الشيعية المرتبطة بإيران، واستطاعت إيران في ظل الوضع القائم اقتناص الفرص والتدخل بحرية في شؤون العراق الداخلية، مستفيدة من أذرعها في الداخل، ومستغلة الفراغ الأمني والحدود المفتوحة بين البلدين، ومهدت لتحقيق أهدافها ونواياها المبيَّتة في المنطقة بالسماح لعناصر القاعدة الإرهابية الموجودة داخل أراضيها، أو تلك الوافدة من أفغانستان بالعبور إلى داخل العراق، وذلك بتوجيه منها وتحت إشرافها، حتى استقر المقام بهذه العناصر في الأقاليم السنية، وتغلغلت فيها ومارست إرهابها وعنفها ضد العراق وشعبه، جالبة القتل والخراب والدمار إلى الوطن المحتل وقوة الاحتلال على حد سواء.
والواقع أن سلوك المحتل الأمريكي تجاه العراقيين، والمنغصات التي جلبها لهم الاحتلال، والضغوط النفسية والإحباطات المعنوية أفضت بهم إلى حالة من التململ والاضطراب، وجعلتهم أكثر عرضة وأقرب استجابة لأي ممارسات خاطئة وتصرفات غير منضبطة، وقد زاد الأمر تعقيدًا بعد دخول إيران على الخط وحصول احتلال من نوع آخر، عندما صرف المحتل نظره عنها، وأطلق يدها في العراق، وتدخلت بشكل سافر في شؤون هذا البلد بما في ذلك تصدير الإرهاب إليه، وما صادفه هذا الإرهاب الوافد من استجابة محلية، ووجود بيئة مشحونة بالتعصب المذهبي، والاحتقان الطائفي، والامتعاض الوطني، والانفلات الأمني، والفراغ في السلطة، وهذه الآفات دفعت بالموقف المتأزم إلى نقطة التمزق، وعندها انطلقت شرارة الإرهاب، ودخل البلد في وحل الفساد ومستنقع العنف ودوامة التطرف، وواقع حال ولسان مقال العراقيين هو قول الشاعر:
توقَّ الأذى من كل نذلٍ وساقطٍ
فكم قد تأذَّى بالأراذل سيدُ
وتنظيم الدولة المسمى باسم «داعش»، ترجع أصوله إلى جماعة التوحيد والجهاد الإسلامي التي أنشأها أبو مصعب الزرقاوي في العراق، عقب الغزو الأمريكي، وبعد تأسيس هذه الجماعة انضمت إلى تنظيم القاعدة، وأصبحت فرعًا له في بلاد الرافدين، وهي ثمرة من ثمار التعصب الطائفي الشيعي، والظلم الذي وقع على السنة، ونتيجة من نتائج الاحتلال الأمريكي والوجود الإيراني، وبمولد هذه الجماعة وُلِدَ الإرهاب الفعلي في العراق، ونحا فيما بعد منحى خطيرًا، وأخذ بعدًا بعيدًا، وقد وجد الإرهاب في العراق مرتعًا خصبًا؛ حيث نشأ في ظل قوة أجنبية محتلة لها أجندتها ومخططاتها، وجار له إرث عدائي، وله مطامع ومصالح في المنطقة العربية، وما كان بمقدور محركات الإرهاب أن تنجح في تحريكه، لولا وجود أدوات محلية امتطتها لتفعيل عناصره المتحركة وإيقاظ خلاياه النائمة، وهذه الأدوات متمثلة في حكومة طائفية فاسدة وتنظيمات شيعية متمردة، ومكون سني مغلوب على أمره، وفي هذه المعمعة استطاعت العناصر الإرهابية المحلية والوافدة تنفيذ مشروعها الإرهابي المدمر.
وفي هذا الجو الملبَّد بغيوم الحقد والكراهية وانعدام الثقة تفاقمت أعمال العنف من جهة، وتعاظمت مقاومة الوجود الأمريكي من جهة أخرى، واكتست كلها بكساء واحد هو الإرهاب، وهذا الإرهاب محسوب على السنة، وطبيعة المكان والسكان فرضت عليهم احتضانه، وأُرِيدَ لهم ذلك، ونجح الأمريكان في تأليب بعضهم على بعض بحجة مكافحة الإرهاب، وتشكَّل ما يعرف بالصحوات من العشائر السنة، ودارت عجلة القتل والعنف بين الطرفين، والتنظيمات الشيعية بدورها، ركبت موجة الإرهاب ومارسته ممارسة فعلية من خلال مناصبة السنة العداء واتخاذ الطائفية قبلة لها، إضافة إلى احتدام التنافس بينها على موالاة إيران والتقرب إليها، واعتبار الملالي قدوة يُقتدى بها، ومرجعية ترجع إليها، وفي ذلك ما ينال من الوطنية ويغذي الإرهاب الذي ترعاه إيران، وتقوده ضد السنة، وحكومة المالكي هي الأخرى غلَّبت الطائفية على الوطنية، وسارت في ركب التنظيمات والميليشيات الشيعية، معلنة مذهبيتها من دون خجل أو مواربة، والتقاء إرهاب تنظيم الدولة مع إرهاب حكومة المالكي وميليشياتها، وبلغ الاحتقان الشعبي نهايته، ولم يعد للطريق خارطة، واستفحل العنف وقويت شوكة الإرهاب، وزادت سطوته، وقد قال الشاعر:
إذا عصف الغرور برأس غِرٍّ
توهم أن منكبه جناحُ
ورحل الأمريكان وخلت الساحة لإيران، وحل محل المحتل محتلٌ آخر، ومما يدعو إلى الاستغراب، والسؤال الذي يستعصي على الجواب، ذلك التناقض الصارخ بين نتيجة الغزو وسببه، وما آلت إليه الأمور بعد احتلال العراق والانسحاب منه، حيث إن أحد أسباب الغزو هو الزعم المكذوب بوجود أسلحة كيماوية لدى العراق وضرورة تدميرها، وكانت النتيجة محل الاستغراب، وليس لسؤالها جواب، لما فيها من مفارقات غريبة ومقارنات عجيبة، لكونها تصب لصالح دولة يدَّعي الأمريكان عداوتها ويصفونها بأنها أحد أقطاب محور الشر، وهي دولة شبه خارجة عن الإجماع الدولي ومتمردة عليه، ولها مشروع مدِّمر في المنطقة، ومعروفة برعايتها للإرهاب، ومبررات غزو العراق تنطبق عليها، وعلى الرغم من كل ذلك فإن نتيجة الغزو تمخضت عن إطلاق يدها في العراق، وتركها تتصرف فيه كيفما يحلو لها والانتصار لها من عدوها اللدود، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل فيه وقتها ما يوحي ضمنًا بالسماح لها بتفعيل برنامجها النووي، ذلك البرنامج الذي استغرق التفاوض بشأنه فيما بعد ما يقارب عقدين من الزمن، وكلف الكثير من الوقت والجهد، واختلطت مكاسبه مع متاعبه، وانتهى إلى نهاية تخدم إيران، فهل بقي هناك مجال للشك في نظرة العرب القاصرة تجاه ما يبيِّت لهم من نوايا ماكرة، ويحاك ضدهم من خطط غادرة.
والإرهاب المزروع في داخل الحواضن السنية ونظام البعث أصبحا يشكلان لعنة تطارد سكان المحافظات السنية، مستهدفة هذه اللعنة النخب القيادية والسياسية والدينية ذات النزعة الوطنية المناهضة للفساد والوجود الإيراني. والعراق ذلك البلد الطيب الذي يخرج نباته طيبًا، لم يسر بعض أبنائه أن يتركه على حاله كأنه صخرة كأداء تتحطم عليها أطماع الأعداء، بل جرَّه إلى خُبْثِ مآله الذي خَبُثَ لا يخرج إلا نَكِدًا، فالسلطة طائفية، والدستور وضع على أساس طائفي، والقانون تتحكم فيه الأهواء والرغبات، والقضاء مسيَّس، والوطنية غائبة، والظلم استحكم، والفساد عم وطمَّ. ومن هنا بدأ مسلسل الاغتيالات والاعتقالات وأعمال العنف، وصار ذلك عملاً ممنهجًا من قبل نظام المالكي وأذرعته الأمنية والميليشاوية، ورفع النظام شعار استلطاف الشيعة واستهداف السنة على النحو الذي باتت معه حرية الشيعة سجنًا للسنة، وتحول البلد إلى سجنٍ كبير من شدة الظلم، وكما قال الشاعر:
ما يدخل السجن إنسان فتسأله
ما بال سجنك إلا قال مظلوم
وفي عام 2010 تزعم أبو بكر البغدادي تنظيم الدولة وخرج هذا التنظيم عن أعراف تنظيم القاعدة واستقل عنه، وطغى نهجه التكفيري على نهج منبعه، وكشف الصنيعة عن وجه مَنْ صنعه، وارتداء الرداء السلفي واستخدام السلفية الجهادية شعارًا من قبل هذا التنظيم وتنظيم القاعدة، لم يتم تبنِّي ذلك بالمصادفة، بل اُخْتِيرَ هذا المصطلح لكون المستهدف هو الإسلام السني، والجهاد أكثر جذبًا وأصدق ندبًا، كما أن ذلك يمثل المبرر المقنع للإيقاع بالسنة واستهدافهم، سواء من قِبَلِ التنظيم نفسه تحت ذريعة وصمهم بالكفر ومولاة أعداء الدين، وإطلاق هذا المصطلح عليهم بحيث يُكَفِّرهم ويصوِّب إليهم سلاحه، أو من قبل رعاته، عن طريق وصف السنة بالتطرف ونسبة الإرهاب إليهم، والانقضاض على دولهم بحجة مكافحة الإرهاب، وفي الوقت نفسه تشويه صورة الإسلام السني وإضعاف دوره المتنامي في العالم، والتقليل من جاذبيته ومصداقية تأثيره من خلال التحريض عليه والتهويل من خطره على الأمن والسلم على المستوى الإقليمي والعالمي، واستخدام رعاة الإرهاب ذلك شمَّاعة تعلَّق عليها الاستهدافات والاقترافات تارة، وفزَّاعة يشار إليها بالتحذيرات والإخافات تارة أخرى.
وقد سنحت الفرصة للبغدادي عندما اندلعت الثورة في سوريا للاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من الأراضي الواقعة في الشرق السوري ليربط بينها وبين الأراضي العراقية التي يسيطر عليها، ويتخذ من بعضها عمقًا لبعض، وأعلن وقتها ما يعرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام التي يتكون اسم داعش من أحرفها الأولى، وذلك تنفيذًا لأوامر رعاته؛ لصرف الثورة عن مسارها وتشويه أهدافها، ثم تطور أمر هذا التنظيم فيما بعد حتى سيطر على ما يقرب من ثلث مساحة العراق والنصف الشرقي من سوريا، وكوَّن ثروة لا يستهان بها، واستولى على أسلحة أمريكية متطورة الصنع، تقدر قيمتها بملايين الدولارات، وتوفر له شيء من مقومات الدولة المتمثلة في الأرض والقوة البشرية والأسلحة والنفط والمال.