د. محمد البشر
كنت أعيد قراءة كتابي مباهج الأندلس، فوقعت عيني على ما كتبت عن الشاعر، الناثر، الوشاح، الوزير، السفير لسان الدين بن الخطيب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمة تاريخه الكبير كلاماً عن الموشحات، لعل من المناسب نقل شيء منه، حيث قال «وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فناً منه سموه بالموشح، ينظمونه أسماطاً أسماطاً، وأغصاناً أغصاناً، يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتاً واحداً، ويلتزمون عدد قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالية فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد، وتجاوزوا في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس وحمده الخاصة والكافة، لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافى القبري من شعراء الأمير عبدالله بن محمد المرواني، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، ولم يذكر لهما مع المتآخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية، وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر ابن زهر يقول: كل الوشاحين عيال علي عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله:
بدرٌ تم شمس ضحىً
غصن نقاً مسكٌ شم
ما أتم ما أوضحا
ما أورقا ما أنم
لا جرم من لمحا
قد عشقا قد حرم
وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمان ملوك الطوائف، وجاء مصلياً خلفه منهم ابن أرفع رأسه شاعر المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة، قالوا: وقد أحسن في ابتدائه في الموشحة التي طارت له حيث يقول:
العود قد ترنم بأبدع تلحينٍ
وشقت المذانب رياض البساتين
وفي انتهائه حيث يقول:
تخطر ولم تسلم عساك المأمون
مروع الكتائب يحي بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في مدة الملثمين (أي المرابطين)، فظهرت لهم البدائع وفرسان حلبتهم الأعمى التطيلي، ثم يحي بن بقي، وللتطيلي من الموشحات المذهبة قوله:
كيف السبيل إلى صبري
وفـي المعالـم أشجان
والركب وسط الفلا
بالخرد النواعم قد بانوا
وذكر غير واحد من المشايخ، أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل وأخد منهم قد صنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى التطليلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان
سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان
وحواه صدري
خرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون:
وذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحاً على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
أما ترى أحمد في مجده العالي لا يلحق؟
أطلعه المغرب فأرنا مثله يا مشرق
وهناك حكاية حدثت لأحد الموشحين واسمه أبو بكر بن باجه مع حاكم سرقسطة، حيث حضر ابن باجه مجلس حاكم سرقسطة فألقى عليه بعض موشحته:
جرر الذيل أيما جر
وصل السكر منك بالسكر
فطرب الممدوح لذلك وختمها بقوله:
عقد الله راية النصر
لأمير العلا أبي بكر
فلما طرق ذلك التلحين سمع حاكم سرقسطة قول فطرب وشق ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت! وحلف الأيمان المغلظة ألا يمشي ابن باجه لداره إلا على الذهب، فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه.