د. محمد البشر
أصدر عام 1526 ميلادية فيليب الثاني ملك إسبانيا قانوناً لاحقاً لقوانين سابقة، لكنه في هذه المرة كان صارماً وحاسماً بتحريم استخدام اللغة العربية تخاطباً وكتابةً وتكاملاً ونثراً وشعراً لأي غرض كان، سواء كان ذلك دينياً أو دنيوياً أو حتى جمالياً كالشعر والقصص، واستبدالها بالنشتالية في جميع مدن الأندلس وقراها، بل وفي إسبانيا قاطبة حتى تلك التي كان يقطنها عدد قليل من المدجنين الذين بقوا في كنف النصارى في أوائل سقوط بعض المدن الإسبانية.
عندما أصدر الملك ذلك القرار الجائر والخاطئ كان لابد للمورسكين وهم المسلمون الأسبان الذين تنصروا مجبرين ومنهم من بقي مسلماً وأخفى إسلامه، وكذلك المدجنين من إيجاد لغة تكون وعاء لثقافتهم التي حُرِّمت عليهم بموجب القانون، فأخذوا في كتابة الفشتالية بحرف عربي، وخلطوا معها ألفاظاً عربية وغير عربية متمازجة مع لهجات مختلفة كانت خاصة بكل مدينة، إضافة إلى بعض مفردات اللغة الرومانية القديمة التي كان يستعملها المستعربون الذين عاشوا في الدولة الإسلامية الأندلسية معززين مكرمين ينعمون بحقوق المسلمين نفسها، وهي لغة كانت سائدة في قرطبة وأشبيليا وحواضر أخرى، وهي أيضاً لغة الصقالية الذين جُلبوا للعمل في البلاط الأندلسي ثم أصبحوا فيما بعد ذوي شأن كبير فكانت تنم عن الرقي لديهم، وكذلك لدى بعض كبار القوم من العرب العاملين في قصور الملوك ودواوينهم، وكان المسلمون عبر تاريخهم في الأندلس يستخدمونها أحياناً في مصطلحاتهم العلمية، كما تسربت بعض ألفاظها إلى لهجاتهم السائدة في مدنهم وقراهم وكانوا يسمونها باللطينة أي اللاتينية، والخلط بين التاء والطاء ما زال قائماً حتى عصرنا الحاضر في المغرب العربي الشقيق، فمن زار المغرب لا بد له أن يشاهد في لوحات التكاسي طاكسي صغير وطاكسي كبير، وهذه اللغة الجديدة المبتكرة - إن صح التعبير - والتي استخدمها المورسكيون لإخفاء دينهم الإسلامي تسمى الأخميادو، وهي في حقيقة الأمر تصحيف لكلمة (الأعجمية)، إذ إن حرف الجي المخففة في اللغة الإسبانية تنطق خاء، وزادوا عليها حرفي الذال والواو كما هو متطلب اللغة الإسبانية، ولم تكن معروفة لدى الباحثين لمدة طويلة حتى اكتشفها العلماء الإسبان وفي القرن الماضي بعد أن عثروا على بعض مخطوطاتها، فهناك من قال إنها لغة قشنالية قديمة تكتب بأحرف عربية، ولعلنا ننقل هنا ما قاله ساندرا في تعليله لوجودها أن الطابع الديني الذي يفصل بين المورسكيين وباقي الإسبان يطغى على إنتاجهم الأدبي وكأنما هو قرين طبيعي للمنتجات العربية، فهم لكي يحتفظوا بجذوة حية من العقيدة المحمدية كتب العلماء والفقهاء كتباً عما يجب أن يعتقده وأن يحفظه كل مسلم حسن الإيمان من صفات الله وعن بعض المسائل الفقهية وفقاً لمذهب مالك، وكتبوا عن التاريخ المقدس والقصص الدينية وتعبير الرؤيا وغير ذلك.
لعلني أتوقف هنا خارجاً عن الموضوع لأقول إن تعبير الرؤي يزداد مع تكاتف الضغوط النفسية وعدم الثقة في الذات وفقدان الأمل لأسباب عدة، وهو ما كان سائداً عند المورسكيين آنذاك، فكان الإحباط كبيراً وهذا ما يرى شيئاً من ذلك في عصرنا الحاضر لاتساع الهوة بين الطموح والقدرة على تحقيقه فتكون تعابير الرؤى آملاً يلجأ إليه المصاب بالإحباط لعله يستشرق مستقبلاً أفضل من واقعه، فينبري لهؤلاء المساكين مجموعة من مفسري الرؤى الذين يمنحونهم شيئاً من الأمل مقابل شيء من المال.
نعود لموضوعنا ونذكر أن المورسكيين استعملوا لغة الأخميادو في أدبهم ونثرهم وشعرهم وبيعهم وشرائهم، بالإضافة إلى الأذكار والمدائح الدينية وكتب الفقه التي يستنيرون بها لمعرفة دينهم وتثبيت عقيدتهم في مجتمع لا يسمح لهم بالإفصاح عن تلك العقيدة الكامنة في قلوبهم والإيمان الذي ظل عالقاً في قلوبهم مع ما يشوبه من أخطاء جراء بعدهم عن المنبع الحقيقي للدين الحنيف. ومن شعرائهم المشهورين عندهم محمد ريدان ويلقب بالراعي، وكان حياً في القرن السابع عشر وله قصائد قصصية وأخرى دينية، ومن قصصه كتاب عن هول يوم الحساب وقصص الأنبياء منذ بدء الخليقة وأغنيات دينية وأسماء الله الحسنى، وشعرهم سهل وجزل ومن شعراء المورسكيين أيضاً إبراهيم دي عقاد وخوان الفونسو ومنهم محمد الخرطونسي، ومن أشهر كتاب الأخميادو الكاتب الفقيه المسمى (فتى أبيرالو) وقد ألف في التفسير وتلخيص السنة وطاف معظم مدن وقرى إسبانيا وشاهد ما يعانيه قومه ووصفها، وقد تلقى علومه من عالمتين في الشريعة أولاهما العالمة والفقيهة (مسلمة أيده)، والأخرى اسمها (مسلمة آية)، وهذا يدل على أن النساء كن على قدر من العلم الذي يدرسنه خفية ويبدعن فيه. أما في مجال القصص فقد كتبوا الكثير ومنها كتاب (حديث القصر الذهبي) (وكتاب الحروب) وكتاب (حديث علي والأربعين جارية) وكتاب آخر من الحماسة وهو كتاب (قصة الأسكندر ذي القرنين)، وهذا شيء من فيض كثير حول الأخميادو ولنا به عودة.