عبدالعزيز السماري
كان الحديث حول القطعي والظني في تاريخ الإسلام الموضوع الأكثر إثارة واختلافاً بين علماء الفقه والعقيدة والشريعة، وكان محور الاختلاف حول حديث الآحاد، وهو أحد أنواع الأحاديث النبوية ويُعرف بأنه: «ما لم توجد فيه شروط المتواتر سواء أكان الراوي واحدا أو أكثر»، وعلى مذهب الجمهور فإنهم يقولون بظنّية خبر الآحاد، ويعتبر حديث الآحاد الإرث الأضخم في تاريخ المسلمين، وتدخل فيها الأقوال والأحداث التاريخية عن مرحلة النبوة وما بعدها في حياة الصحابة.
قال ابن عبد البر: «واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد: هل يوجب العلم والعمل جميعا، أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم: أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله، وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه.
وقال النووي: «وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر، سواء كان الراوي له واحداً أو أكثر، واختلف في حكمه، فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل.
وإذا تعارض خبر الواحد مع القواعد العامة للشريعة، فإن أهل العلم اختلفوا في أيهما يقدم، قال الشاطبي في كتابه الموافقات: قال ابن العربي: إذا جاء خبر الواحد معارضاً لقاعدة من قواعد الشرع: هل يجوز العمل به أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به، وقال الشافعي: يجوز، وتردد مالك في المسألة.
الحديث ينقسم إلى متواتر وآحاد، فالمتواتر: ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب أو وقوعه منهم عن مثلهم، وأن يكون مستندهم في انتهاء السند الحس من سماع أو نحوه، والآحاد: ما فقد شرطًا من هذه الشروط ،مما يجعله لا يصل إلى درجة اليقين والقطع في صحته، والجدير بالذكر أن الآحاد من الحديث الصحيح يشكل أكثر من 90% من الأحاديث، وقيل إن المتواتر القطعي منها لا يتجاوز 300 حديث.
يعود الفضل في إعادة اعتماد الحديث أحد المصادر القطعية في تطبيق الشريعة في العصر الحديث إلى الشيخ العلامة ابن باز والمحدث الشهير الألباني، وكان ذلك مدخلا لبدء مرحلة البحث والتنقيب الشامل في الأخبار الآحاد، ثم إصدار الفتاوى من خلالها، والتي تصل في أحكامها إلى القطعية التي تدخلها ضمن تطبيقات الشريعة.
كان من آثار إعادة القطعية للنص الظني الثبوت في البدء، استخدام جهيمان وجماعته حديث (الأئمة من قريش) في الثورة على الدولة، وكانوا يرون حسب الخبر الآحاد أن الإمام يجب أن يكون من نسل قريش، وفي رسالة الإمارة والبيعة والطاعة لجهيمان فصل في شروط الخليفة، والإمام الذي تجب بيعته وطاعته ؛ يجب على خليفة المسلمين أن يكون مسلما وأن يكون من قريش.
أدى اعتماد الظني في علم الله عز وجل وشرعه القطعي، ووجوب العمل به إلى بدء ظاهرة الصحوة، والتي قسمت المجتمع إلى طيب وخبيث، وكان من آثارها اعتماد عدد لا حصر له من الفتاوى التي تحرم كل المتغيرات الجديدة، وقد وصل المجتمع بسبب ذلك إلى مرحلة من الانغلاق الشديد التطرف، وانتهى بها الحال إلى أن تحولت إلى ظاهرة سياسية ماضوية، وتعتمد أخبار الآحاد في طرحها السياسي ومن دون أي اعتبار للتطور العصري، وكان ذلك فصلا جديدا في المواجهة السياسية المبنية على مجلد الأخبار الآحاد الضخم.
كانت المفاجأة الأخطر في فتح أبواب العمل بأخبار الآحاد من صحاح الأحاديث في الشرع أن تفجرت قضية الإرهاب، فالمجلد الضخم من أخبار الآحاد يحتوي على مختلف الأعمال التي قام بها الصحابة، وحسب منهج أهل الحديث تدخل ضمن تطبيق الشريعة، كان أول أحاديث الآحاد التي فتحت الباب للعمل غير النظامي ضد الدولة (عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فكوا العاني، وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض))، العاني: أي الأسير؛ رواه البخاري، وذلك بعد أن اعتبروا السجناء في منزلة العاني، الذي يتوجب فك أسره بالقوة، وهو ما فتح الباب للعمل المسلح ضد الدولة.
كان من آثارها إعادة مفهوم التترس، والذي نشأ في ظروف سياسية مختلفة في زمن ابن تيمية، لكنهم أعادوه وليوظفوه في تفجير الآمنين، واعتماده تطبيقاً للشرع الحنيف، وقد قال ابن تيمية «وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترس بمن عنده من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم»، وكان من نتائجه أن فجرت المجمعات السكنية في الوطن وقتل الآمنين فيها.
أما في مسألة تفجير النفس في الآخرين وقتلهم من خلال تفجير جسده، فتم تبريره بالحديث (مِنْ خير مَعَاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانّه..) رواه مسلم، وهو ما فتح الباب للعمليات الانتحارية، وذلك مجلد ضخم، يستخدم الظني كما يقول علماء الحديث في جواز قتل المسلمين المخالفين بتفخيخ الأجساد، ثم تفجيرها.
وفي مسألة نحر الرقاب وحز الرؤوس، فقد استدل دعاة الإرهاب على مشروعية نحر الأعداء والمخالفين ،بما رواه ابن الأثير وابن إسحاق وغيرهم من أصحاب السير من قوله عليه الصلاة والسلام حينما آذاه نفر من قريش: «أتسمعون يا معشر قريش، والذي نفس محمد بيده جئتكم بالذبح، واستدلوا على مشروعية ذلك براويات تدل على إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لأعمال الذبح والنحر، كرواية الطبراني عن فيروز الديلمي قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم برأس الأسود العنسي»، وما رواه البيهقي في سرية أبي حدرد أنه جاء النبي عليه السلام برأس رفاعة بن قيس يحمله معه، «ولم ينهه رسول الله عن ذلك.
وفي قضية التحريق بالنار، فقد صدر بحث عن جامعة أم القرى التحريق لأحمد بن ناصر الغامدي، استعرض فيها الأدلة المتضادة في تحريم وتجويز التحرق بالنار، واعتمد فيها على أخبار الآحاد من كتب الحديث، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه من جديد أن اعتماد الظني الثبوت في أحكام الشرع القطعية أدخلنا من دون استئذان في عوالم من التطرف والانغلاق ثم الفوضى والإرهاب والجريمة السياسية الدينية..
بذل الثقاة من العلماء جهداً في أن يحصروا الفهم لهذه الأخبار الآحاد فيهم دون استثناء، لكن ذلك تجاوزهم، وتم إدخال الدموية والفوضى ضمن مفاهيم تطبيق الشريعة السمحاء، بعد أن تم فتح اعتماد الأخبار الآحاد في مسألة تطبيق الشريعة، والله على ما أقول شهيد.