عبدالعزيز السماري
كتبت مقالاً عن «الفوضى التخريبية في الحروب السفلية..» في تاريخ 7 يوليو 2015، ووردتني تساؤلات عن علاقتها بما يجري في الشرق العربي، ومضمون الفكرة التي طرحتها في المقال أن نظرية الفوضى التخريبية، تمت صياغتها أولاً في عالم الابتكارات والتكنولوجيا من قبل كلايتون كريستنسن عام 1995، في كتابه الشهير The Innovator›s Dilemma، وتصف القدرة على ابتكار منتج منخفض، أو خدمة غير مكلفة، تتجذر وتتوسع في البداية في تطبيقات بسيطة في الجزء السفلي من السوق، وبعد أن تؤدي أغراضها التخريبية تتحرك للسيطرة على السوق، وفي نهاية المطاف تؤوي إلى القضاء على المنافسين، واستخدم كلايتون كريستنسن أمثلة مسامير حديد التسليح المتواضعة في مواجهة سيطرة حديد الفولاذ الصلب، وما فعلته سيارات تويوتا المتدنية المستوى في بداياتها في إسقاط سوق السيارات الأمريكية الفخمة.
كل ذلك كان طبيعياً في نظرية كريستنسن الاقتصادية إلى أن تلقى المؤلف ذات يوم اتصالاً من وزير الدفاع الأمريكي وليام كوهين أثناء فترة رئاسة بيل كلينتون، وذلك كما ورد في مقال مطول (When Giants Fail)، تم نشره في مجلة نيويوركر 14 مايو 2012، يدعوه لإلقاء محاضرة في البيت الأبيض، كان كريستنسن مذعوراً عند دخول المكتب، فقد كان في انتظاره وليام كوهين، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، وزيري الجيش والبحرية، وقائد القوات الجوية، والأمناء المساعدين، وكان الكل في انتظار أن يسمع منه، ثم ألقى كريستنسن نظريته في الفوضى التخريبية حول مصانع الصلب الفولاذية العملاقة، ومصانع مسامير التسليح الصغيرة..
حتى قاطعه رئيس هيئة الأركان المشتركة وقال: « هل لديك أي فكرة لماذا أنت هنا؟ «، فرد: بالطبع لا، وأوضح الرئيس، أنه بالنسبة له وموظفيه، كان السوفييت هم صفائح الفولاذ، وكان الإرهاب الإسلامي حديد التسليح، وأنهم يريدون إستخدام نظريته في كيفية إعادة تكوين تنظيمهم للقبض على الطرف الأدنى من سوق الإرهاب، وفي وقت لاحق بعد المحاضرة، قررت الحكومة الأمريكية إنشاء فرع مستقل لمواجهة الإرهاب، في نورفولك بولاية فرجينيا، وتمت صياغة خطة زمنية، تنتهي بتسويق منتج إسلامي متطرف بمواصفات سلفية (داعش)، للسيطرة على سوق الإرهاب في الشرق العربي، ثم استخدامه لإعادة تنظيم المنطقة.
كان أول فصول تطبيق النظرية التخريبية غزو العراق عام 2003، تحت ذرائع غير صحيحة من أهمها وجود القاعدة في العراق، وتم تسليم السلطة في بغداد للأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، ثم بدأت عملية بناء قاعدة للتطرف السني في الشمال، والذي انفجر بقوة قبل عام من الآن في وجه الحكومة الشيعية، واستولى على شمال العراق في فترة زمنية قصيرة، وتلاه إعلان قيام تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) في 29 يونيو 2014، وبايع التنظيم زعيمه أبو بكر البغدادي «خليفة للمسلمين»، وكان البغدادي تحول إلى ظاهرة مع إعلان قيام التنظيم في العراق، بعد انشقاقه عن تنظيم «القاعدة» وزعيمه أيمن الظواهري، وتمت مراعاة قيام تنظيم داعش بمواصفات سلفية متطرفة تصل إلى استرقاق النساء وذبح المخالفين بالسكين أو حرقهم، وكأن من يقف خلف هذا التنظيم يدرك تلك التفاصيل المتطرفة جداً في الفهم السلفي للدين.!
قبل ذلك بأعوام، تم إدخال مصطلح « الشرق الأوسط الجديد « على العالم في يونيو 2006 في تل أبيب من قبل وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس، وقام كولونيل رالف بيترز بإعداد خريطة تم نشرها في مجلة القوات المسلحة الامريكية في يونيو 2006، وتتطابق مع موقع دولة داعش الحالي في شمال العراق، وتم تقديم مشروع « الشرق الأوسط الجديد « علنا من قبل واشنطن وتل أبيب مع توقع أن لبنان سيكون نقطة الضغط في إعادة تنظيم الشرق الأوسط تحت مبادرة الفوضى الخلاقة، والتي تستخدم ظروف العنف والحروب في جميع أنحاء كل الإقليم العربي، بحيث يسهل للولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفقا لاحتياجاتهم وأهدافهم الجيوستراتيجية.
ما يهمني في هذه المقالة أن الفوضى الخلاقة وخريطة الشرق الأوسط الجديد تنصان على إيصال الفوضى التخريبية إلى المملكة، ثم تقسيمها إلى مناطق ثلاث، ولعل ذلك يفسر إستهداف داعش للأقلية الشيعية، ومن ثم بث الفوضى في البلاد، وعلينا شعباً وحكومة أن ندرك جيداً أن داعش سر إستخباراتي خطير، ويستخدم تطبيقات سلفية متطرفة وتحت أضواء إعلامية براقة، وتحاكي الفهم المتطرف السلفي في بعض العقول، وتستمد تعاليمها من الفتاوى السلفية المنشورة، وذلك من أجل خلق الفوضى العنيفة من أجل السيطرة على المنطقة، وبالتالي السيطرة على سوق الإرهاب وتوجيهه إلى أهداف إستراتيجية محددة، ولو استرجعنا الموقف الأمريكي المتساهل من الحكومة الشيعية في بغداد، وموقفهم الهش من نظام بشار في دمشق، وعدم اعتراض استخدامه للجو في سماء سوريا، وحربهم الناعمة ضد داعش، لربما استطعنا رؤية الصورة جيداً..
ما كتبته ليس من نسج الخيال، ولكن مستوحي من وثائق وحقائق واقعية، ويستدعي التوقف عنده طويلاً، ثم مواجهته من خلال إستراتيجية وطنية على مستوى عال من التخطيط والذكاء، تحرص على الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره الداخلي، وتعزز من الوطنية، وتمنع الطائفية وتحاسب على ازدراء أو السخرية من الطوائف، وتجرم سب وشتم الرموز الإسلامية في التاريخ، ويصاحبها الانتقال إلى مستويات أعلى من الإصلاح الإداري والاقتصادي والتعليمي، وبالتالي تقديم المصلحة الوطنية على أي اعتبارات أخرى، ولا يعني ذلك التخلي عن الحلول الأمنية، لكنها بالتأكيد لن تكفي في مواجهة التطبيق الجديد للفوضى التخريبية في المنطقة العربية، والله على ما أقول شهيد.