عبدالعزيز السماري
خلال الأربعة عقود الماضية توفرت لهذه البلاد مدخولات مادية هائلة من عوائد النفط، وكان لها أثر كبير في تغيير أنماط الحياة في المجتمع، وتم استثمار بعض عوائده في التنمية والتعليم، ولا زالت مشروعات التنمية تتوالى، لكنها لم تصل بعد إلى إيجاد البديل الاقتصادي للثروة النفطية، وهو ما يزيد من التحديات الوطنية أمام تهديد نضوب النفط، لكن ما يثير التساولات أيضاً في هذه المرحلة الحرجة هو خروج الثروات المالية إلى الخارج، وهروبها من مواجهة ذلك التحدي.
يأتي على رأس تلك القائمة هروب السعوديين إلى الخارج للبحث عن أجواء سياحية، وتقدر تكاليف هذا الهروب البشري المؤقت بأكثر من أربعة ملايين سائح سعودي ينفقون أكثر من سبعة وسبعين مليار دولار سنوياً، ويحدث ذلك بسبب الفشل الذريع في تحويل البلاد إلى بلاد جاذبة للسياح والزوار الذين ينفقون اموالهم في الداخل، ومن أهم أسباب الفشل هو غياب ثقافة السياحة، والتأخر في تقديم خدمات سياحية اقتصادية جاذبة للزوار، والأهم من ذلك فوبيا الانفتاح على الخارج، بسبب الخلط بين التقاليد المحافظة والثوابت الدينية، والتي حولتنا إلى شخصيات مرتبكة ومزدوجة الشخصية، ويظهر ذلك في اختلاف سلوك السعودي في الخارج عن الداخل.
يلي ذلك في نفس القائمة التحويلات المالية للأجانب إلى الخارج، فقد أظهر تحليل اقتصادي، ارتفاعاً في تحويلات الأجانب العاملين في السعودية للأغراض الشخصية إلى الخارج لتصل إلى مستويات الـ153.3 مليار ريال خلال عام 2014، ويقدر ذلك بأكثر من 15% من الدخل القومي، ويدل هذا الرقم على فشل تنموي في توطين المهن والعمالة، برغم من برامج التوطين المعلنة في كل اتجاه، والتي لم تنجح إلى اليوم في تحويل هذه الأموال إلى جيوب المواطنين، وإيقاف نزيف الاقتصاد الوطني المستمر.
على الجانب الآخر ولعله الأخطر حسب وجهة نظري، بلغ إجمالي التحويلات الشخصية للسعوديين إلى الخارج نمواً سنوياً تقدر نسبته بـ13 في المئة، أي ما تعادل قيمته نحو 9.9 مليارات ريال، ليصل إلى مستويات الـ88.6 مليار ريال، خلال عام 2014، مقارنة بـ78.6 مليار ريال خلال عام 2013، ويقدر بعض المحللين حوالي 3 تريليونات ريال استثمارات سعودية هاربة إلى الخارج، وهو رقم مخيف، ويجعل من مطالباتنا للحد من تحويلات الأجانب في موقف أضعف.
بحسبه بسيطة يبلغ إجمالي هروب الأموال إلى الخارج بأكثر من 300 مليار ريال سعودي سنوياً، وهو ما يثير كثيراً من الأسئلة عن سبب هروب الأموال من الوطن إلى الخارج، ومنها لماذا تهرب هذه الأموال إلى الخارج؟، ولماذا لازالت بلادنا بيئة طاردة للثروات ؟، وهل ذلك له علاقة بالفشل التنموي الذي تكاد تخنقه التقاليد وطريقة الحياة السعودية أم أن تلك هي طبيعة الأشياء في الجزيرة العربية، وأنها منذ القدم بيئة طاردة للبشر والمال بسبب قسوة الحياة الطبيعية والاجتماعية وحالة عدم الاستقرار التي كانت تعيشها في الماضي.
لكن عندما نرقب تجارب دول الخليج في التنمية وازدياد معدلات الجاذبية للأموال والاستثمارات، سنتكشف أن البيئة الطاردة قد تتحول إلى أن تصبح جاذبة، وذلك من خلال إحداث التغيير في فلسفة النظرة إلى الحياة، وفي البدء في تحقيق الأهداف التنموية في مختلف المجالات، والتي عادة ما تكون متكاملة ومترابطة، وأعني بذلك أن حالة الجاذبية السياحية مرتبط بجذب الاستثمارات الصناعية إلى الداخل، وأن تنظيم السوق عبر إصلاح الإجراءات القضائية، وسن القوانين الإدارية التي تحفظ للجميع أموالهم واستثماراتهم، وإصلاح الحياة الاجتماعية من أساسيات ذلك التحول.
في نفس السياق يحضر العامل الديني وفهمنا المتطرف للدين كأحد المعوقات التي تقف ضد التنمية على مختلف الأصعدة، ففحوى الرسالة الدينية الحالية تجعل من جميع المواطنين دعاة ووعاظ ونموذج متحرك لذلك الفهم في حين أنهم ليسوا كذلك، ويفسر ذلك إزدواجية السلوك الاجتماعي للمواطن، والذي يتغير بين ليلة وضحاها من كائن ديني متزمت إلى إنسان منفتح ويقبل ثقافات الآخرين إذا تجاوزت قدماه الحدود في رحلة سياحية، ولعل هذه الرسالة أحد أهم أسباب فشل برامج السياحة الداخلية، فصيحات الاحتجاج ترتفع منهم إذا ارتفعت أصوات الموسيقى في برنامج ترفيهي في الداخل، بينما تجدهم يستمتعون بمهرجانات الموسيقى المائية في بلاد مجاورة!.
نحن في ضرورة ماسة لإحداث التغييرات والإصلاحات في الوطن لمنع هروب أكثر من ثلث الدخل القومي كل عام، ويتطلب ذلك عقل اقتصادي يملك رؤية ثاقبة وقادرة على تغيير مسار هروب الأموال إلى الخارج، وقد يتحقق ذلك إذا أدركنا قبل أي شيء آخر، أن ذلك ممكن، ويتطلب تقديم تنازلات من كل جانب من أجل مصلحة الوطن، والله المستعان.