عبدالعزيز السماري
يتفاخر أتباع الفكر السلفي الجهادي بقدرتهم على مواجهة أي كان على وجه الأرض، وأنهم بعتادهم المتواضع سينتصرون على الأعداء لأنهم على المنهج الصحيح، وأن انتصارهم في أفغانستان كان كرامة إلهية، وأن الله - عز وجل - سخر لهم أمريكا لمدهم بالسلاح والعتاد في مواجهة الكفار الشيوعيين، بينما ما لم يدركوه في تلك الفترة أنهم كانوا مجرد أحجار شطرنج في ساحة الصراع الخفي بين المعسكر الشرقي الشيوعي والمعسكر الغربي الرأسمالي، وكان الدين أحد محاور ذلك الصراع، وكانت إفريقيا وشرق آسيا ساحات مفتوحة للصراع بين القطبين، وبعد سقوط جدار برلين انتفت الحاجة للحرب الباردة؛ وبالتالي الحاجة إليهم..
ما أود التطرق إليه في هذه العجالة تلك النزعة الانتحارية في الفكر السلفي الجهادي، التي تقوم على أن الصدور العارية قادرة على غزو العالم ثم وضعه أمام أمرين: إما الإسلام أو الجزية. وتغرر تلك النزعة بكثير من الشباب في مقتبل العمر، تماماً مثلما غررت الفكرة النازية بالشباب الألماني في دفعهم إلى مواجهة العالم، ثم انتهت بتدمير البلاد، واحتلالها، وتقسميها إلى شرق وغرب، مع وجود اختلاف جذري بين الفكرة الألمانية التي اعتمدت على شوفونية عرقية دينية، وعلى تسخير العقل في تطوير الصناعات العسكرية، بينما يعتمد الفكر الديني الجهادي المعاصر على صناعة الأحزمة الناسفة وتفجير الأجسام، لكنه في واقع الأمر يحتقر العقل، ويهمش دوره في صناعة الحضارة والفهم المعتدل للدين..
كنت وما زلت أتساءل عن مصدر تلك النزعة التي لا تستطيع قراءة الأحداث، وتغفل أن القوة والتمكن والحضارة سر الانتصار في مختلف المجالات، وأن المواجهة المستمرة ومعاداة العالم لا تنتج إلا التخلف والدمار، وأن رسالة الإسلام بدأت في مكة في مرحلة المهادنة مع الكفار الأقوياء، ولم يتجه عليه الصلاة والسلام إلى فتح مكة إلا بعد أن تمكن بأسباب القوة والقدرة، وقد مارس رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام أغراض السياسة كما يفهمها المعاصرون، وذلك عندما قَبِل التفاوض مع الأعداء والتوقيع على معاهدات مثل صلح الحديبية، مسجلاً مواقف أقرب إلى البراغماتية منه إلى المواجهة المباشرة..
فقد نصت قواعد الصلح على رجوع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من عامه وعدم دخول مكة، وإذا كان العام القادم دخلها المسلمون بسلاح الراكب، فأقاموا بها ثلاثاً، وعلى وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، وعلى من أحب أن يدخل في عقد مع محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد مع قريش وعهدهم دخل فيه، وعلى من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه رده إليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرد إليه. وقد كان موقفاً تكتيكياً وبراغماتياً، وتنضوي فيه أغراض السياسة بكل ما تعنيه الكلمة..
قَبِل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصلح حفاظاً على دماء المسلمين، ولم يتقدم في طريق الهاوية، ولكن تراجع إلى الخلف، وقَبِل بالموقف السياسي الذي يحفظ دماءهم، ولا يدفعهم إلى التهلكة، ولم يحاول إيهام المؤمنين أنهم سينتصرون ولو كانوا الأضعف والأقل عتاداً، لكن عليهم بالأخذ بأسباب الانتصار العقلانية والدنيوية، وأن لا يمنعهم أيضاً ذلك من أن يكونوا أصحاب أخلاق ورسالة، وقد ظهر ذلك عندما دخل مكة منتصراً، وعندما أعطى الأمان لبيت أبي سفيان زعيم قريش في تلك الفترة، وعندما قال «يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟». قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. ثم قال «اذهبوا فأنتم الطلقاء». فأعتقهم رسول الله، وقد كانوا أشد المقاتلين لهم، ولم ينحرهم أو يحرقهم أو ينكل بهم..
من خلال هذه القراءة أرفع أكثر من علامة تعجب عن مصدر تلك النزعة الانتحارية التي تتصف بها السلفية الجهادية، وتؤمن أن الله - عز وجل - سينصرها إذا تقدموا للقتال بأقل الرجال وأبسط الأسلحة، وأن خروجهم مجرد سبب، وأن النصر قادم من السماء. وقد كانت سمة تتصف بها شيوخ الإخوان بعد توحيد المملكة، عندما أصروا على القتال واختراق الحدود الدولية، ولم يكن لديهم أكثر من البنادق العادية والخيول، وحين أُخبروا أن لا يتقدموا؛ لأن الإنجليز عندهم طائرات تلقي ناراً من السماء (أي قنابل) قال قادتهم: هل هذه الطائرات فوق الله أم الله فوقها؟! وكان ذلك بداية النهاية لهذا الفكر في تلك المرحلة، لكنها تعود مرة أخرى، وتحاول أن تدفعنا إلى الهاوية بسبب تلك النزعة الانتحارية نحو الهاوية..
نحن أمام معضلة فهم ديني مجرد من الفهم العقلاني للحياة، ونحتاج إلى معجزة من أجل إخراج هذا الفهم من المناهج والعقول المتحجرة، وربما يعود ذلك إلى النزعة الصحراوية في الفهم الديني أو الفهم غير القرشي للدين إن صح التعبير. وقد أظهر الخوارج في عصر الفتنة شيئاً من ذلك، وقد كانوا يشتركون مع المعاصرين في أنهم من غير عرب قريش، وقد كانوا أعراباً لا يقبلون أنصاف الحلول، ويرفضون أنصاف الفهم، ويخالفون أنصاف الأحكام؛ لذلك كانوا يقاتلون بلا عتاد، وينتظرون دوماً النصر القادم من السماء، ويحكمون بالكفر على المخالفين للفهم الظاهر للنص، ولا يعتقدون أن الوعد مرتبط بالأسباب، أو أن النصوص حمَّالة أوجه..
ولهذا اختاروا أن يعيشوا في المنفى في الماضي، وبعيداً عن مراكز الحضارة العربية في بغداد ودمشق والقاهرة وغرناطة، لكنهم في هذا العصر عادوا من جديد، محمَّلين بنفس الفكر المجرد، الذي لا يقبل على الإطلاق أن يحكم العقل النصوص، تماماً مثلما استوعبته وأدركته قريش المتحضرة في مرحلة النبوة وما بعدها، الذي أوصل الحضارة الإسلامية إلى مرحلة السيادة، بينما تقوقعت التفسيرات الأخرى خارج الزمن والمكان بسبب نزعتها الانتحارية، والله المستعان.