د. عبد الله المعيلي
في ضوء الخبرات السابقة، بدا جليًا أن أي وزير يأتي للوزارة التي يكلف بمهمات قيادتها، يأتي وهو خالي الوفاض عن الوزارة عدا جملة من الانطباعات التي يسمعها عن الوزارة، والرؤى الشخصية والاجتهادات والآمال التي يظن أنها ضرورية لإصلاح الجهاز ومعالجة مشكلاته، وفي أحسن الأحوال تسييره بصورة أفضل مما كان عليه سابقًا، بل البعض غير آبه بما قام به الوزير الذي سبقه متجاهلاً جهوده، مجرد نوايا حسنة، ووعود براقة، وصور وردية زاهية، يطلقها الوزير الجديد خلال زياراته الميدانية المرتب لها، أو لقاءاته مع العاملين معه في جهاز الوزارة، مما يعني أن الأمر متروك له يرسم ملامحه حسب ما يرى ويعتقد أنه يحقق الصالح العام، وكما قيل: لكل مجتهد نصيب، وهذا أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى ما يمكن أن يطلق عليه «مكانك سر» جعجعة وضجيج ولكن بلا طحين.
ومما يؤكد هذا ويدل عليه، ما تواتر عن الوزراء الذين تلاحقوا على عدد من الوزارات على الرغم من اختلاف إمكاناتهم وقدراتهم، والوزارات التي كلفوا بمهمات قيادتها، ومدد تكليفهم، فقد سمع منهم المواطنون المتطلعون بلهفة للإصلاح والتطوير إلى الكثير من النوايا والوعود والآمال، التي لو صدق القليل منها، لكانت الحال أفضل، لكن الحال يصدق عليها ما حصل لكعب بن زهير مع سعاد، يقول:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً
وما مواعيدها إلا الأباطيل
خلال العقدين ونيف الماضيين تعاقب على بعض الوزارات وزراء فضلاء أجلاء، وكلهم ذاك الرجل من حيث الحماسة، والقدرة والرغبة في الإصلاح والتطوير، وكانت الصفة المشتركة بين هؤلاء وغيرهم ممن سبقهم، أن لحماسة الوزير واجتهاده، الدور الرئيس فيما هو آت من رؤى وأفكار وخطط، وهذا أمر لا مشاحة فيه، لكن هذا لا يعني البتة ألا يستفيد من جهود الذين سبقوه، وأن تكون بدايته تعزيزا وتكميلاً وتطويرًا للجهود السابقة، لكن تواتر عن البعض أنه لا يسأل ولا يهتم ولا يأبه بما تحقق، بل من البدء وهو يسعى جاهدًا إلى توطين منهجه وسياساته وأفكاره، حتى وإن كانت تتعارض مع النجاحات السابقة، أو لا تفي بالتطلعات والآمال التي ينشدها ذوو العلاقة، هذا نهج في إدارة الأجهزة الحكومية يجب التنبه له وتداركه، وخطأ يجب معالجته، بحيث لا يترك الأمر لاجتهاد الوزير وحماسته، ربما كان هذا النهج مقبولاً في الماضي، لأن كل الأجهزة الحكومية في ذاك الحين تحتاج إلى أي جهد، كونه يعد خطوة ضرورية لتسيير العمل وإدارته، ومهما تكن الخطوة فإنها تشكل إضافة ونقلة أفضل من الواقع الذي يعيشه الجهاز.
أما الآن وقد حققت جل الأجهزة الحكومية الكثير من النجاحات، وإن اختلفت في درجات كمالها ونضجها، إلا أنه لا بد من إتباع النهج العلمي المعتبر المتبع في التخطيط، أن أي دولة أو مؤسسة تريد أن تحقق تنمية مشهودة، ونجاحات يشار لها بالبنان، يستشهد بها ويشاد في المراكز العلمية المتخصصة، ومؤسسات الأبحاث والدراسات، لا بد لها أن تصوغ رؤية طموحة وفق منهج التخطيط ومصادره وأدواته وإجراءاته وبرامجه المعتبرة التي تشخص الواقع تشخيصًا مهنيًا علميًا، والتواصل مع الأطراف المستفيدة، ومن ثم تصاغ الخطة بما تشتمل عليه من برامج ومشرعات، ومتطلباتها المادية والبشرية وأساليب متابعتها وتقويمها.
أما نهج أمهلوني مائة يوم، ومن ثم ألف يوم، والأقلام الخضراء والصفراء والحمراء، أو التصريحات الوردية الحالمة التي غالبًا طابعها وغايتها الدعاية والبهرجة الإعلامية الفارغة، فقد ثبت أن كل الممارسات التي بهذه الصفة فاشلة، وأنها دليل عجز وإفلاس، وأنه آن الأوان لطي صفحات هذه الأنماط في الإدارة.
الآن والمملكة في مرحلة تعد الرابعة، مرحلة سمتها الجد والحزم، يقودها باقتدار الملك سلمان حفظه ووفقه، فإنه يجب على الأجهزة الحكومية كلها اعتماد التخطيط منهجًا في تحديد الأولويات، وأن تقدم الخطط الطويلة الأمد إلى مقام خادم الحرمين الملك سلمان لاتخاذ ما يراه مناسبًا حيالها ومن ثم اعتمدها، بحيث تغدو منارة ونبراسًا لكل الجهود الآنية والمستقبلية.