د. عبد الله المعيلي
كان الله في عون الإنسان، حيث تتنازعه في كل آن ومكان، حالات نفسية ثلاث، مختلفة في اتجاهاتها وتوجهاتها، تتجاذبه كل واحدة منها وتجذبه وتشده إلى المواطن التي تراها تحقق لها ما يشبع نهمها ونوازعها، إلى ما تشتهيه وتحبه، إلى ما يتوافق مع رغباتها، لكل واحدة منها مغرياتها، ولها جاذبيتها، وقوتها القاهرة، ولها ما يستهوي إلى اتباعها والانقياد لها، وهي مختلفة في طبيعة تكوينها، منها الخيرة بطبيعتها، ومنها الشريرة، ومنها ما بين هذه وتلك.
النفس الأمارة بالسوء، المشتهية دائما إلى الملذات، الحسية والمعنوية، تأمر صاحبها بالسوء دائما وتلح عليه أن يفعل السيئات والانقياد للشهوات، البعض يضعف ويجبن أمام سطوة وسلطة هذه النفس، لذا تجده ينقاد إلى أوامرها، ويستجيب مستسلما لمطالبها، حتى إن كان في الاستجابة لتلك الرغبات مما نهى الله عنه وحذر منه، فهي في غير ما فيه رضا الله، بل إن فيها الكثير مما يسخط الله ويغضبه، فمهما كانت اللذة المتحصل عليها من ممارسة الفعل، إلا أنه ينتهي إلى حسرة وألم وشقاء يفوق مقدار اللذة المتحققة.
النفس اللوامة، سمتها التلون والتردد، قال مجاهد: هي التي تندم على ما فات وتلوم عليه، وقال قتادة: هي الفاجرة، وقال عكرمة : تلوم على الخير والشر، وقال عطاء عن ابن عباس: كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة، تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد إحسانا، وتلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته، قال سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر، ولا تصبر على السراء ولا على الضراء، فهي مغرمة بالاستزادة وبشراهة مما تستطيع الحصول عليه بغض النظر عن كونه صوابا أم خطأ.
النفس المطمئنة، جوهرة النفوس وأنفسها وأزكاها، نظرا لما تتمتع به من سكينة ووقار، وهدوء واستقرار، والطمأنينة عامة شاملة لكل شؤون الحياة المادية والمعنوية، لذا تجدها تمتاز بالسكينة، والإيثار والتواضع، بالرضا والصبر على الابتلاء، والتوكل واليقين، حرة واثقة، ملتزمة بهدي القرآن وسنة سيد الأنام، لا تأبه للقيل والقال، لا تقودها الغرائز والانفعالات والعواطف، ولا يطغى عليها العقل، تتصرف بحرية وتوازن واتزان، وفق مبادئ وقيم أخلاقية وعملية أصيلة معتبرة.
ثلاث حالات من سلطة النفس وسطوتها، لا تخلو الحياة الاجتماعية للفرد أو الجماعة من التعرض لها يوميا، وتختلف درجة التفاعل معها، والاستجابة لنزعاتها من فرد لآخر، فهناك من يهرول دون وعي خلف نوازع النفس الأمارة بالسوء، وهناك من يتردد بين إحجام وإقدام خلف نوازع النفس اللوامة، وهناك من حسم أمره، وحدد اتجاهه، وعرف طريقه، طريق الاستقامة والهناءة والأمن والاطمئنان، فكل طريق يسلكه تحفه السكينة والراحة والاستقرار، لا قلق ولا اضطراب، بل رضا وسلام، هذه حال من تهيمن عليه النفس المطمئنة، فأنعم بها من حال، وأكرم بها من حياة.
من أجل النعم التي عاشها الإنسان في رمضان، ضعف سلطة النفس الأمارة بالسوء، فالشياطين مصفدة، وفرص السوء ومناسباتها قليلة، بل تكاد تكون معدومة، ومن هنا تخبو سلطة النفس الأمارة بالسوء وتضعف، بل تكاد تتلاشى إغراءاتها وحضورها، وهذا مما يعزز سلطة النفس المطمئنة وسطوتها، ويجعلها سيدة المواقف، وبالتالي يتعزز حضورها، وهيمنتها على السلوك بصفة عامة، وبهذا تقوى وتهيمن على السلوك، وتترسخ حتى تغدو سمة أصيلة في التكوين والممارسة.
الآن وقد رحل شهر رمضان، ومظنة القول : أن السواد الأعظم من المسلمين خبر فعل الخيرات ومارسها، ألفها وتعود عليها، في صور عديدة من العبادات، قراءة قرآن، صدقات وزكوات، قيام وتهجد، هجران للمعاصي والذنوب، وصار للنفس المطمئنة الحضور الأوفى، والسلطة الأقوى، فما أحرى بمن منَّ الله عليه بهذا الفضل أن يحفظه ويحافظ عليه، ويسأل الله المزيد من الثبات عليه في مستقبل أيامه الآتية.