د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
«ماكنتُ أعرف قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التراب تغورُ»
يا حاملين النعش فيه نفائس
رفقاً رويدا فالفقيد أثيرُ
عقل وحذق والسياسة حنكة
ومنافح دون السلام قديرُ
منذ لحظة الفقد استوطن تاريخ أربعة عقود في عمق ذاكرة التراب، يستنطق تاريخ ذلك العبقري، وفاضت الأسفار غزاراً، ولكن الأمة أجازتها دونما توثيق؛ حيث التمائم
والنياشين والأوسمة فوق صدره -رحمه الله- تشهد على استثنائية ذلك الرجل.
وكان بوح العامة والخاصة والقادة والساسة، والذين عاصروه وجالسوه؛ رصد وإعجاب آخر، وثناء يملأ آفاق بلادنا والعالم، قال تعالى {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (سورة الصافات 108).. ومعنى الآية تركنا لذكره ثناء حسناً
وقوله سبحانه وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (سورة مريم 96).
وكان الطرح حوله شامخاً كشموخه، غزيراً كغزارة عقله، متيناً مثل ثبات مواقفه ومتانة رؤيته، وكان الحديث عنه ودوداً مثلما كان رحمه الله شفيقاً ودوداً بوطنه وأمته العربية والإسلامية. تحدثوا عن سعود الفيصل القوي الأمين؛ تحدثوا عن استباقية عقله؛ وثباته على المبادئ وعمق استدلاله، تحدثوا عن النظرة الثاقبة عندما تتجاوز الواقع، وحدوده الواضحة للملأ؛ تحدثوا عن مهارة الصمت عندما تكون قراراً، وعن مهارة الحوار والتفاوض عندما تقتنص الفرص وتصطاد التأييد بصقر الدبلوماسية السعودية؛ تحدثوا عن من أبدع وبرع في التعامل مع العالم من خلال مكانة بلاده، وثقلها حتى شقّ لها في العالم مصابيح الضوء، واستجلب لها ثقة العالم قولاً وعملاً ؛ فصارت بلادنا مع سعودها الحاذق الأريب رقماً صعباً في المعادلة العربية والعالمية، وعندما رصدوا منهجه رحمه الله في التعامل مع الأعداء فإن هناك دلاء أخرى حيث قال رحمه الله (نحن نتعامل بصدق مع أعدائنا مثلما نحن صادقون مع أصدقائنا).
ومن منطلق الثقة بالله أولاً ثم التفاؤل فإن له رحمه الله صفوفاً وقطوفاً خاصة أنه عاش في زمن انكسارات الأمة، وغياب الاستقرار في جلّ ربوعها، فلم تتراجع عزيمته بل كانت مكتنزة واخترق بها حروباً، واختراقات للمواثيق الدولية ولقرارات مجلس الأمن، والنقض والشدّ والجذب، وكثيراً مما في نطاق ذلك، فكانت مطالع الوعي عن سعود الفيصل تحتم العودة إلى نقطة البداية والمنافحة من جديد دون يأس، وبذات العزم والعزيمة.
وتحدث العالم عن مصطلح العدالة عند سعود الفيصل وقد توشّح به، وأصبح صولجانه الذي يباري به ويؤكده في كل المحافل والمواقع التي يرتادها ويعني بها تحقيق العدالة بين الشعوب في حقها في العيش بسلام.
وتحدثوا عن ذلك الوزير الدبلوماسي الذي لم تصادف الدبلوماسية في مصطلحها من يفري فريَه، لأنه كان دبلوماسياً راقياً في فك الاشتباكات وتقريب وجهات النظر، ويستل سخيمة الظلم من جحورها بمبضع جراح ماهر.
وعرف السياسيون مصطلح أناقة التعامل الدبلوماسي عند سعود الفيصل، وعرفوا معنى الدبلوماسية الملتزمة عنده -رحمه الله- وعرفوا معنى الوصول إلى موقع القرار قبل إصداره.. وكان رحمه الله في غرفة القيادة للتحرك الدبلوماسي في أي وقت في قضايا وطنه وأمته والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعوب، وفي كل ذلك حمل سعود الفيصل المبادئ السامية، وجعلها من أهم أدواته في قيادة العمل الدبلوماسي، وقدم الفيصل إرادة الشعوب في بلاد العالمين العربي والإسلامي، فكانت علامة يدفع بها لتكون للقادة منطلقاً في إصلاح المشكلات، ونستحضر في هذا السياق موقفه بعد حرب العراق عندما قال لمسؤول أمريكي «إن أسوأ ما يمكن أن يحدث أن يعتبر وجود أمريكا في العراق احتلالاً عسكرياً، وأن ذلك سوف يؤكد مصداقية ما يتوارد أن الولايات المتحدة تسعى لنهب ثروات العراق، لا لتثبيت دعائم السِلم والاستقرار فيها، وفي السياق ذاته حذر الفيصل أمريكا من استخدام بغداد للانطلاق إلى تغيير العالم العربي».
لقد أثبت سعود الفيصل للعالم خلال مسيرته أنه سجل دخولاً قويا للعالم بأسره، وزيراً لوطنه أرسى قواعد الدبلوماسية السعودية، ورسم معالمها وسنداً لأوطان العرب والمسلمين، وخطط لنشر السلام في العالم، ونافح عن مبادرات وطنه وأمته نحو ذلك، وكانت تفاصيل دبلوماسيته تبدأ وتنتهي بأن فتيل الحروب لابد أن ينطفئ، لأنه لا يكسر القادة فحسب؛ إنما هو ضيمٌ للشعوب المنكوبة.
وللأمير الراحل فلسفة في الحرب رواها عندما قال «نحن لسنا دعاة حرب، ولكن إذا قرعت طبول الحرب فنحن لها».
قاد المملكة نحو أمكنة العلاقات التي وعى رحمه الله كيف يطوّعها، ويحوك نسيجها لتكون دثاراً للمصالح المتبادلة، وعلى الرغم من ثقافته السياسية الملأى، إلا أنه استطاع أن يدخل على مخزونه فسحة تنبئ للمستمعين إليه أول مرة أنه واسع الإلمام فحسب، وما علموا بأن هناك دبلوماسياً جهبذاً بلغ السماء دهاء وحنكة، وكان رحمه الله وافر الحضور وإن لم يتحدث فإنه يقف في مواقع العارف العليم.
اصطفى رحمه الله الخطاب السياسي الزاخر بلغة الجسور، واحتوى طرائق التعاون بين الشعوب، ومجّ كل انسلاخ وقطيعة، وكانت أمنيته رحمه الله أن يكون العرب والمسلمون في صدارة العالم وليس في هامشه.. رحمك الله يا أمير الوطن، وقدوة الساسة، وفارس الدبلوماسية رحمة واسعة.
جنان الخلد يا سعود بن فيصل
ونور في الرموس يُرى ويرفل
إذا عدّوا جهابذة السياسة
فأنتم بحرها والفيض مذهل
وإن جادوا المحافل باقتدار
فأنت حكيمهم فصل ومجمل