د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في إحدى صباحات هذا الشهر الفضيل، كان الموت يعلن رحيل أمير الحدود الشمالية سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود - رحمه الله - وغمره بشآبيب رحمته، ولستُ في مقامي هذا داخل هذه المساحة الصغيرة من الصحيفة لأنثر حديثاً عن تاريخه - رحمه الله - أميراً لمرتبع من بلادنا الغالية ساق إليها حياة جديدة جذلى، يؤثرها على نفسه،
ويُقدمها في خاصته، ويُسقيها من نمير الحكمة، والنظرة الثاقبة، والقدرة والاقتدار ما تعجز الأقلام عن وصفه، فذاك يحتاج إلى أسفار ومدونات وأحاديث وندوات، ولعل محاضن تاريخ بلادنا، ومنابر الكلمة فيها تفي ذلك الأمير - رحمه الله - سرد حكايات الشموخ والطموح والوفاء للوطن والأرض.
ما زلت تلهج بالأمجاد تكتبها
حتى رأيتك في الأمجاد مكتوبا
ففي مساحتي هذه سوف أتحدث عن تلك الأميرة التي كانت وما زالت بأبيها معجبة، وكان هو كيانها وأهلها وحصنها الذي تتكئ عليه وتحتمي به، لقد استدار الفقد حول فجيعتها، إلا أنها كما عهدتُها استوعبت اللحظات؛ وحملت الحزن في قاع عينها ووجدانها.
عندما هاتفت الأخت الصديقة الأميرة جواهر ابنة الفقيد لتقديم واجب العزاء؛ انتفض أمامي صبرها، لقد كانت في أحاديثها في مواقف مختلفة في مجال العمل وغيره تتمثل والدها نموذجاً وتشمخ حين الحديث عنه - رحمه الله -، فدائماً ما تحدثنا عن والدها الذي كان مدرسة قائمة بذاتها، وأن تجربته في قيادة الحدود الشمالية ممتدة وحفية لكل ذرات ترابها، تحدثت عن لقاءات الناس بوالدها، فكانت تخترق مشاهد مخضرة لتسردها نماذج مشرفة من حياة أميرها الراحل، كان - رحمه الله - لأهل الشمال ملاذاً بعد الله، يعود مريضهم، ويزور شيخهم، ويجبر كسرهم، ويكفي فقيرهم، ويفك أسيرهم ويحتفي بهم ولهم، فكانوا يرون في وجوده غيمة تمر لتروي وتشفي، وكان - رحمه الله - يرأهم أرضاً خصبة تُكرم فتنبتُ من كل زوج بهيج.
وأفضل الناس ما بين الورى رجل
تُقضى على يده للناس حاجات.
حدثتني أن هاتفه كان معلقاً بيده فلا يرد سائلاً، ولا يختار له وقتاً وللناس أوقات أخرى.
وتسرد لي الأميرة حكايات الحضارة في ذلك النطاق الذي دلفه الراحل منذ ستة عقود؛ فوجدها صحارى قاحلة تتسابق إلى قيعان الماء ليبلغ فاها؛ فأصبحت عروساً في شمال وطننا الأشم، وحمل الفقيد - رحمه الله - مهمة التنمية ومهّد طرقها هناك، وتبرعمت خطوات ما لبثت أن اهتزت وربت، فأصبح الناس يحاكون أحلامهم في ذلك المرتبع الذي ارتشف الحياة من أكواب الأمير الراحل، وتحولت تلك الرقعة من أمومة الصحارى، وحطت حيث كل مغامرة جميلة وخطوات وثابة نحو الأمكنة، وعندما تحدثنا عن الثقافة في ذلك المكان كانت حكاية مبجلة، يمكن تفسيرها عبر أبواب محتشدة حيث رعايته لتأسيس النادي الأدبي الثقافي هناك، ومن ثم تشييد مبناه كأول ناد يتم له ذلك الإنجاز، وكانت مباذله ودعمه دنان تقطر في حياض الثقافة، ويذكر رئيس النادي الأدبي في الحدود الشمالية الأستاذ ماجد المطلق أنه عند وضع حجر الأساس لمبنى النادي الأدبي قال للأمير الراحل إن مهندس البناء من أبنائك من مدينة عرعر، فتبسم - رحمه الله - وهو يربت على كتف ماجد قائلاً: (وأنت من عيالي وكل أبناء الحدود الشمالية عيالي).
والأمير - رحمه الله - عمل في عهود ملوك هذه البلاد الطاهرة، ولذا فهو ديوان بذاته، يحمل ذلك الوميض والألق الذي كسى عصورهم الوارفة، وكان له منهم - رحمهم الله جميعاً وأمد في عمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - إحاطة ووقار؛ حيث هو قائد فطري انتهج أساليب مثلى للقيادة، ووقف على سدة منطقة عطشى وحولها إلى بحور وافرة ذات قوة وتميز، ترتسم على وجوه أهلها لوحات ماء الحياة، يبهرهم تواضعه لهم وإنسانيته حين التعامل معهم الذي لم ينفك يتفقد حالهم وأحوالهم إلى ليلة وفاته - رحمه الله.
وأحسن أخلاق الفتى وأجلها
تواضعه للناس وهو رفيعُ
إن هذه الصياغات عن حال أمير الحدود الشمالية في حياته نزر من بحر ترسو على شاطئه سفن وتحط إعلامها وتنحني لدفقه الذي يسوق الخير والنماء لشمال بلادنا، هو تاريخ يُروى دون أن يرافقه زمن صاحبه، ولكنه يستدير على اكتمال الشواهد المضيئة التي تعيد استيلاد تفاصيلها بذات النكهة التي نشر أريجها - رحمه الله -، وصدق الشاعر حين قال:
إنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى